روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ} (3)

{ إِلاَّ تَذْكِرَةً } نصب على الاستثناء المنقطع أي ما أنزلناه لشقائق لكن تذكيراً { لّمَن يخشى } أي لمن شأنه أن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قليه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف ، والجار والمجرور متعلق بتذكرة أو بمحذوف صفة لها ، وخص الخاشي بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم لتنزيل غيره منزلة العدم فإنه المنتفع به .

وجوز الزمخشري كون «تذكرة » مفعولاً له لِ { أنزلنا } [ طه : 2 ] ، وانتصب لاستجماع الشرائط بخلاف المفعول الأول لعدم اتحاد الفاعل فيه ، والمشهور عن الجمهور اشتراطه للنصب فلذا جر ، ويجوز تعدد العلة بدون عطف وإبدال إذا اختلفت جهة العمل كما هنا لظهور أن الثاني مفعول صريح والأول جار ومجرور ، وكذا إذا اتحدت وكانت إحدى العلتين علة للفعل والأخرى علة له بعد تعليله نحو أكرمته لكونه غريباً لرجاء الثواب أو كانت العلة الثانية علة للعلة الأولى نحو لا يعذب الله تعالى التائب لمغفرته له لإسلامه فما قيل عليه من أنه لا يجوز تعدد العلة بدون اتباع غير مسلم .

وفي الكشف أن المعنى على هذا الوجه ما أنزلناه عليك لتحتمل مشاقه ومتاعبه إلا ليكون تذكرة ، وحاصله أنه نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً ، ويرجع المعنى إلى ما أدبتك بالضرب إلا للإشفاق كذلك المعنى هنا ما أشقيناك بإنزال القرآن إلا للتذكرة ، وحاصله حسبك ما حملته من متاعب التبليغ ولا تنهك بدنك ففي ذلك بلاغ ا ه . واعترض القول بجعله نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً بأنه يجب في ذلك أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتماً كما في المثال المذكور ، وفي قولك : ما شافهته بالسوء ليتأذى إلا زجراً لغيره فإن التأديب في الأول مسبب عن الاشفاق والتأذي في الثاني سبب لزجر الغير وما بين الشقاء والتذكرة تناف ظاهر ، ولا يجدي أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان { إِلاَّ تَذْكِرَةً } إلا تكثيراً لثوابك فإن الأجر بقدر التعب كما في الحديث انتهى .

ولعل قائل ذلك يمنع وجوب أن يكون بين العلتين الملابسة المذكورة أو يدعي تحققها بينهما في الآية بناء على أن التذكرة أي التذكير سبب للتعب كما يشعر بذلك قول المدقق في الحاصل الأخير حسبك ما حملته من متاعب التبليغ الخ ، وقد خفى المراد من الآية على هذا الوجه علي ابن المنير فقال : إن فيه بعدا لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول وإن لم تكن اللام سببية وكانت للصيرورة مثلاً لم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن الشقاء والحزن على الكفرة وضيق الصدر بهم وكان مضمون الآية منافياً لقوله تعالى :

{ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ الأعراف : 2 ] { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم } [ الكهف : 6 ] ا ه ، وأنت تعلم بعد الوقوف على المراد أن لا منافاة . نعم بعد هذا الوجه وكون الآية نظير ما ضربتك للتأديب إلا اشفاقاً مما يشهد به الذوق ، ويجوز أن تكون حالاً من الكاف أو { القرآن } [ طه : 2 ] والاستثناء مفرغ ، والمصدر مؤول بالصفة أو قصد به المبالغة .

وجوز الحوفي كونها بدلاً من «القرآن » . والزجاج كونها بدلاً من محل { لتشقى } [ طه : 2 ] لأن الاستثناء من غير الموجب يجوز فيه الإبدال . وتعقب بأن ذلك إذا كان متصلاً بأن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والبدلية حينئذ البدلية البعضية في المشهور ، وقيل : بدلية الكل من الكل ، ولا يخفى عدم تحقق ذلك بين التذكرة والشقاء . والقول ببداية الاشتمال في مثل ذلك لتصحيح البدلية هنا بناء على أن التذكرة تشتمل على التعب مما لم يقله أحد من النحاة . واعتبارها لهذا الاشتمال من جنس الشقاء فكأنها متحدة معه لا يجعل الاستثناء متصلاً كما قيل ، وقد سمعت اشتراطه ، وبالجملة هذا الوجه ليس بالوجيه وقد أنكره أبو علي على الزجاج .

وجوز أن يكون مفعولاً له لأنزلنا و { لتشقى } [ طه : 2 ] ظرف مستقر في موضع الصفة للقرآن أي ما أنزلنا القرآن الكائن أو المنزل لتعبك إلا تذكرة ، وفيه تقدير المتعلق مقروناً باللام وحذف الموصول مع بعض صلته وقد أباه بعض النحاة ، وكون أل حرف تعريف خلاف الظاهر ، وقيل : هي نصب على المصدرية لمحذوف أي لكن ذكرناه به تذكرة .

من باب الإشارة : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يخشى } [ طه : 2 ، 3 ] أي إلا لتذكر من يخشى أيام الوصال التي كانت قبل تعلق الأرواح بالأبدان وتخبرهم بأنها يحصل نحوها لهم لتطيب أنفسهم وترتاح أرواحهم أو لتذكرهم إياها ليشتاقوا إليها وتجري دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سبباً لعودها ولله تعالى در من قال :

سقى الله أياماً لنا ولياليا *** مضت فجرت من ذكرهن دموع

فيا هل لها يوماً من الدهر أوبة *** وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع

وقيل : من يخشى هم العلماء لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] . ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عز وجل ليكون ذلك سوراً له مانعاً من تطرق شيء مما ذكر «الرحمن على العرش استوى » العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط الذي هو مشرق أنوار القدم وشرفه بنسبة الاستواء الذي لا يكتنه ، وقيل : خلق من أنوار أربعة مختلفة الألوان وهي أنوار سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولذا قيل له الأطلس ، وإلى هذا ذهبت الطائفة الحادثة في زماننا المسماة بالكشفية .

وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذي نسبة العرش المشهور إليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه ، وفي إحياء العلوم لحجة الإسلام الغزالي قال الله تعالى : «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع » أي الساكن المطمئن ، وفي الرشدة لصدر الدين القونوي قدس سره بلفظ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى التقى الوادع » وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فإنها عند كل عاقل أحقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلاً عن أن تسعة سبحانه وتكون مطموح نظره الأعلى ومستواه عز شأنه وهي وأن سميت قلبا فإنما تلك التسمية على سبيل المجاز ، وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الإنساني عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكوفية الرومانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنشئ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية ، والقلب الصنوبري منزل تدلي الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التي هي صورة الحقيقة القلبية ، ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما في مسلك الوسط الداني كونه مظهراً جامعاً للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئة وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه ، هذا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الخبر وإن استفاض عند الصوفية قدست أسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون ، فقال العراقي : لم أر له أصلاً .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال : إن الله تعالى فتح السموات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل : سبحانك ما أعظمك يا رب فقال الله تعالى : إن السموات والأرض ضعفن من أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين .

نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامة الشمس ابن القيم في شفاء العليل ما نصه ، وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : «القلوب آنية الله تعالى في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها » انتهى .

وروى الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني رفعه «إن لله تعالى آنية من الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينا وأرقها » وهذا الحديث وإن كان في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا أنه صرح فيه بالتحديث ؛ ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب إليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهي لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرؤيته ، واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمية للإشارة إلى أن لكل أحد نصيباً من واسع رحمته جل وعلا .