قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم } قال ابن عباس : { ما بين أيديكم } يعني الآخرة ، فاعملوا لها ، { وما خلفكم } يعني : الدنيا ، فاحذروها ، ولا تغتروا بها . وقيل : { ما بين أيديكم } : وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم ، { وما خلفكم } : عذاب الآخرة ، وهو قول قتادة و مقاتل . { لعلكم ترحمون } والجواب محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه ، دليله ما بعده .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من رد المشركين السيئ على من يدعوهم إلى الخير ، ومن جهالاتهم حيث تعجلوا العذاب الذى لا محيص لهم عنه ، ومن أحوالهم عندقيام الساعة ، فقال - تعالى - :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ . . . } .
قوله - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ . . . } حكاية لموقف المشركين من الناصحين لهم ، ويكف أنهم صموا آذانهم عن سماع الآيات التنزيلية ، بعد صممهم عن التفكر فى الآيات التكوينية .
أى : وإذا قال قائل لهؤلاء المشركين على سبيل النصح والإِرشاد : { اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } أى : احذروا ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر ، وصونوا أنفسكم عن ارتكاب المعاصى التى ارتكبها الظالمون من قبلكم ، فأهلكوا بسببها وأبيدوا ، وآمنوا بالله ورسوله واعملوا العمل الصالح ، لعلكم بسبب ذلك تنالون الرحمة من الله - تعالى - .
وجواب " إذ " محذوف دل عليه ما بعده ، والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا عن الناصح ، واستخفوا به ، وتطاولوا عليه .
ويشهد لهذا الجواب المحذوف قوله - تعالى - بعد ذلك : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } .
ومع تلك الآيات الواضحات فالعباد في غفلة ، لا تتوجه أنظارهم ، ولا تستيقظ قلوبهم ؛ ولا يكفون عن سخريتهم وتكذيبهم ، واستعجالهم بالعذاب الذي ينذرهم به المرسلون :
( وإذا قيل لهم : اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون . وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين . وإذا قيل لهم : أنفقوا مما رزقكم الله ، قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ? إن أنتم إلا في ضلال مبين . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? ) . .
إن تلك الآيات بذاتها لا تثير في قلوبهم التطلع والتدبر والحساسية والتقوى . وهي بذاتها كافية أن تثير في القلب المفتوح هزة ورعشة وانتفاضة ؛ وأن تخلطه بهذا الوجود . هذا الكتاب المفتوح الذي تشير كل صفحة من صفحاته إلى عظمة الخالق ، ولطيف تدبيره وتقديره . ولكن هؤلاء المطموسين لا يرونها . وإذا رأوها لا يتدبرونها . والله - لعظيم رحمته - لا يتركهم مع هذا بلا رسول ينذرهم ويوجههم ويدعوهم إلى رب هذا الكون وبارى ء هذا الوجود . ويثير في قلوبهم الحساسية والخوف والتقوى ويحذرهم موجبات الغضب والعذاب ، وهي محيطة بهم ، من بين أيديهم ومن خلفهم ، إلا ينتبهوا لها يقعوا فيها في كل خطوة من خطواتهم . وتتوالى عليهم الآيات مضافة إلى الآيات الكونية التي تحيط بهم في حيثما يتجهون . ولكنهم مع هذا يظلون في عمايتهم سادرين :
( وإذا قيل لهم : اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون . وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله ، المكذّبين رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم : احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله وَمثُلاته بمن حلّ ذلك به من الأمم قبلكم أن يحلّ مثله بكم بشرككم وتكذيبكم رسوله . وَما خَلْفَكُمْ يقول : وما بعد هلاككم مما أنتم لاقوه إن هلكتم على كفركم الذي أنت عليه لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول : ليرحمكم ربكم إن أنتم حذرتم ذلك ، واتقيتموه بالتوبة من شرككم والإيمان به ، ولزوم طاعته فيما أوجب عليكم من فرائضه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتّقُوا ما بينَ أيْدِيكُمْ } : وقائع الله فيمن خلا قبلهم من الأمم وما خلفهم من أمر الساعة . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { ما بينَ أيْدِيكُمْ } قال : ما مضى من ذنوبهم .
وهذا القول قريب المعنى من القول الذي قلنا ، لأن معناه : اتقوا عقوبة ما بين أيديكم من ذنوبكم ، وما خلفكم مما تعملون من الذنوب ولم تعملوه بعد ، فذلك بعد تخويف لهم العقاب على كفرهم .
ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله { وإذا قيل لهم } الآية ، وما بين أيديهم قال مقاتل وقتادة ، هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن وما خلفهم هو عذاب الآخرة الذي يأتي من بعدهم في الزمن وهذا هو النظر ، وقال الحسن : خوفوا بما مضى من ذنوبهم وبما يأتي منها .
قال القاضي أبو محمد : فجعل الترتيب كأنهم يسيرون من شيء إلى شيء ، ولم يعتبر وجود الأشياء في الزمن ، وهذا النظر يكسره عليه قوله تعالى : { مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل }{[1]} [ المائدة : 46 ] ، وإنما المطرد أن يقاس ما بين اليد والخلف بما يسوقه الزمن فتأمله ، وجواب { إذا } في هذه الآية محذوف تقديره أعرضوا يفسره قوله بعد ذلك { إلا كانوا عنها معرضين } .