{ 77 - 83 } { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ }
هذه الآيات الكريمات ، فيها [ ذكر ] شبهة منكري البعث ، والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه وأوضحه ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ } المنكر للبعث و الشاك فيه ، أمرا يفيده اليقين التام بوقوعه ، وهو ابتداء خلقه { مِنْ نُطْفَةٍ } ثم تنقله في الأطوار شيئا فشيئا ، حتى كبر وشب ، وتم عقله واستتب ، { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة ، فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين ، وليعلم أن الذي أنشأه من العدم ، قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق ، من باب أولى .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بإقامة الأدلة الساطعة على أن البعث حق ، وعلى أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شئ ، فقال - تعالى - :
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا . . . } .
قد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات ، " أن أبىَّ بن خلف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى يده عظم رميم ، وهو يفتته ويذريه فى الهواء ويقول : يا محمد ، أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم . يميتك الله - تعالى - ثم يبعثك ، ثم يحشرك إلى النار " ونزلت هذه الآيات إلى آخر السورة . . .
والمراد بالإِنسان : جنسه . ويدخل فيه المنكرون للبعث دخولا أوليا .
وأصل النطفة : الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة . وجمعها نطف ونطاف . يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلة .
والمراد بها هنا : المنى الذى يخرج من الرجل ، إلى رحم المرأة .
والخصيم : الشديد الخصام والجدال لغيره ، والمراد به هنا : الكافر والمجادل بالباطل .
والمعنى : أبلغ الجهل بهذا الإِنسان ، أنه لم يعلم أنا خلقناه بقدرتنا ، من ذلك الماء المهين الذى يخرج من الرجل فيصيب فى رحم المرأة ، وأن من أوجده من هذا الماء قادر على أن يعيده إلى الحياة بعد الموت .
لقد كان من الواجب عليه أن يدرك ذلك ، ولكنه لغفلته وعناده ، بادر بالمبالغة فى الخصومة والجدل الباطل . وجاهر بذلك مجاهرة واضحة ، مع علمه بأصل خلقته .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث ، بعد ما شاهدوا فى أنفسهم ما يوجب التصديق به . . . والهمزة للإِنكار والتعجب من أحوالهم ، وإيراد الإِنسان مورد الضمير ، لأن مدار الإِنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان . والمراد بالإِنسان الجنس . والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا .
وقوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } عطف على الجملة المنفية ، داخل فى حيز الإِنكار والتعجب كأنه قيل : أو لم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ، فأظهر الخصومة فى أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة . . .
والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور :
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . .
ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه . وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته ، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً . ثم لا ينتبه إلى دلالته ، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره . .
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) . .
فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب ? إنها نقطة من ماء مهين ، لا قوام ولا قيمة ! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا . . خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا . ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل !
والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين . وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير ! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور ?
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ . واختُلف في الإنسان الذي عُني بقوله : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ فقال بعضهم : عُني به أُبّي بن خلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، في قوله : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قال : أُبيّ بن خَلَف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً أُبيّ بن خلف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ : ذُكر لنا أن أُبيّ بن خلف ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل ، ففتّه ، ثم ذرّاه في الريح ، ثم قال : يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ؟ قال : «الله يحييه ، ثم يميته ، ثم يُدخلك النار » قال : فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد .
وقال آخرون : بل عُني به : العاص بن وائل السّهميّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء العاص بن وائل السهميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظّم حائل ، ففتّه بين يديه ، فقال : يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرمّ ؟ قال : «نَعَمْ يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ثُمّ يُمِتُكَ ثُمّ يُحْيِيكَ ، ثُم يُدْخِلُكَ نارَ جَهَنّم » قال : ونزلت الاَيات : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . . . » إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل عُنِي به : عبد الله بن أُبيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ . . . إلى قوله : وَهِيَ رَمِيمٌ قال : جاء عبد الله بن أُبيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل فكسره بيده ، ثم قال : يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ويُمِيتُكَ ثُمّ يُدْخِلُكَ جَهَنّمَ » ، فقال الله : قُلْ يُحْيِيها الّذِي أنشأها أوّلَ مَرّةٍ وَهُو بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيّا فإذَا هوَ خَصِيمٌ يقول : فإذا هو ذو خصومة لربه ، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل ، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم ، فيقول : مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم ؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها .
وقوله : مُبِينٌ يقول : يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه .
هذه الآية قال فيها ابن جبير : إنها نزلت بسبب أن المعاصي بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم ففته وقال : يا محمد من يحيي هذا ؟ وقال مجاهد وقتادة : إن الذي جاء بالعظم النخر أمية بن خلف ، وقاله الحسن ذكره الرماني ، وقال ابن عباس : الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول .
قال القاضي أبو محمد : وهو وهم ممن نسبه إلى ابن عباس لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، واسم أبي هو الذي خلط على الرواة ، لأن الصحيح هو ما رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره ، من أن أبي بن خلف أخا أمية بن خلف هو الذي جاء بالعظم الرميم بمكة ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله ، وقال من يحيى هذا يا محمد ؟ ولأبي مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله يوم أحد بيده بالحربة بجرح في عنقه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين فت العظم «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم »{[9821]} ثم نزلت الآية مبينة ومقيمة للحجة في أن الإنسان نطفة ثم يكون بعد ذلك خصيماً مبيناً هل هذا إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ، وقوله { ونسي } يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك ، و «الرميم » البالي المتفتت ، وهو الرفات .