{ 44 - 45 } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا }
يحض تعالى على السير في الأرض ، في القلوب والأبدان ، للاعتبار ، لا لمجرد النظر والغفلة ، وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل ، وكانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وأشد قوة ، وعمروا الأرض{[747]} أكثر مما عمرها هؤلاء ، فلما جاءهم العذاب ، لم تنفعهم قوتهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا ، ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } لكمال علمه وقدرته { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا }
ثم ساق لهم - سبحانه - ما يؤكد عدم تغيير سنته فى خلقه ، بأن حضهم على الاعتبار بأحوال المهلكين من قبلهم ، والذين يرون بأعينهم آثارهم ، فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } .
أى أعمى هؤلاء الماكرين عن التدبر ، ولم يسروا فى الأرض ، فتيروا بأعينهم فى رحلاتهم إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما ، كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم ، لقد دمرناهم تدميرا ، مع أنهم كانوا أشد من مشركى مكة قوة ، وأكثر جمعا { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } أى وما كان من شأن الله - تعالى - أن يعجزه شئ من الأشياء ، سواء أكان فى السماوات أم فى الأرض . بل كل شئ تحت أمره وتصرفه .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ عَلِيماً } بكل شئ { قَدِيراً } على كل شئ .
والأمور لا تمضي في الناس جزافاً ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثاً ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول . والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة ، محصورين في فترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة ، وسنن الوجود ، فيوجههم دائماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس . ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم ؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس .
وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول :
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض . إنه كان عليماً قديراً .
والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ؛ والوقوف على مصارع الغابرين ، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه . . كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى . .
ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين ، وآثار الذاهبين . وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ، فلا تقف . وإذا وقفت لا تحس . وإذا أحست لا تعتبر . وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة . وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية . وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم ، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ؛ لا رابط لها ، ولا قاعدة تحكمها . والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس .
وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم . أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى . القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين :
( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .
ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض اسانيدها :
يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ؛ وتقوم قدرته إلى جانب علمه . فلا يند عن علمه شيء ، ولا يقف لقدرته شيء . ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض . ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه : ( إنه كان عليماً قديراً ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } .
يقول تعالى ذكره : أو لم يَسِرْ يا محمد هؤلاء المشركون بالله ، في الأرض التي أهلكنا أهلها بكفرهم بنا وتكذيبهم رسلنا ، فإنهم تجار يسلكون طريق الشأم فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم التي كانوا يمرون بها ألم نهلكهم ونخربْ مساكنهم ونجعلْهم مثلاً لمن بعدهم ، فيتعظوا بهم ، وينزجروا عما هم عليه من عبادة الاَلهة بالشرك بالله ، ويعلموا أن الذي فعل بأولئك ما فعل وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَبَطْشا لن يتعذّر عليه أن يفعل بهم مثل الذي فعل بأولئك من تعجيل النقمة ، والعذاب لهم . وبنحو الذي قلنا في قوله : وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً يخبركم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم .
وقوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ يقول تعالى ذكره : ولن يعجزنا هؤلاء المشركون بالله من عبدة الاَلهة ، المكذّبون محمدا فيسبقونا هربا في الأرض ، إذا نحن أردنا هلاكهم ، لأن الله لم يكن ليعجزه شيء يريده في السموات ولا في الأرض ، ولن يقدر هؤلاء المشركون أن ينفُذوا من أقطار السموات والأرض . وقوله : إنّهُ كانَ عَلِيما قَدِيرا يقول تعالى ذكره : إن الله كان عليما بخلقه ، وما هو كائن ، ومن هو المستحقّ منهم تعجيل العقوبة ، ومَن هو عن ضلالته منهم راجع إلى الهدى آئب ، قديرا على الانتقام ممن شاء منهم ، وتوفيق من أراد منهم للإيمان .
{ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } .
عطف على جملة { فهل ينظرون إلا سنت الأولين } [ فاطر : 43 ] استدلالاً على أن مساواتهم للأولين تنذر بأن سيحل بهم ما حلّ بأولئك من نوع ما يشاهدونه من آثار استئصالهم في ديارهم .
وجملة { وكانوا أشد منهم قوة } في موضع الحال ، أي كان عاقبتهم الاضمحلال مع أنهم أشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب .
وجيء بهذه الحال في هذه الآية لما يفيده موقع الحال من استحضار صورة تلك القوة إيثاراً للإِيجاز لاقتراب ختم السورة . ولذلك لم يؤت في نظائرها بجملة الحال ولكن أتى فيها بجملة وصفٍ في قوله في سورة غافر ( 21 ) : { الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض } وفي سورة الروم ( 9 ) { الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض } حيث أوثر فيهما الإِطناب بتعداد بعض مظاهر تلك القوة .
{ وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْءٍ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض إِنَّهُ كَانَ عليما قديرا } .
لما عَرَض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوة من قريش في معرض التمثيل بالأولين تهديداً واستعداداً لتلقّي مثل عذابهم أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة أن لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية كزعمهم : أن لهم آلهة تمنعهم من عذاب الله بشفاعتها أو دفاعها فقيل : { وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض } ، أي هَبكم أقوى من الأولين أو أشدّ حِيلة منهم أو لكم من الأنصار ما ليس لهم ، فما أنتم بمفلَتين من عذاب الله لأن الله لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء كقوله : { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون اللَّه من ولي ولا نصير } [ العنكبوت : 22 ] .
وجيء بلام الجحود مع { كان } المنفية لإِفادة تأكيد نفي كل شيء يحول دون قدرة الله وإرادته ، فهذه الجملة كالاحتراس .
ومعنى « يعجِزه » : يجعله عاجزاً عن تحقيق مراده فيه فيفلت أحد عن مراد الله منه .
وجملة { إنه كان عليماً قديراً } تعليل لانتفاء شيء يغالب مراد الله بأن الله شديد العلم واسعه لا يخفى عليه شيء وبأنه شديد القدرة .
وقد حصر هذان الوصفان انتفاء أن يكون شيء يعجز الله لأن عجز المريد عن تحقيق إرادته : إما أن يكون سببه خفاء موضع تحقق الإِرادة ، وهذا ينافي إحاطة العلم ، أو عدم استطاعة التمكن منه وهذا ينافي عموم القدرة .