لما بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية قال : { تلك آيات الله نتلوها } أي : نقصها { عليك بالحق } لأن أوامره ونواهيه مشتملة على الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها ، كذلك مشتمل على الحكمة والرحمة والعدل الخالي من الظلم ، ولهذا قال : { وما الله يريد ظلما للعالمين } نفى إرادته ظلمهم فضلا عن كونه يفعل ذلك فلا ينقص أحدا شيئا من حسناته ، ولا يزيد في ظلم الظالمين ، بل يجازيهم بأعمالهم فقط ،
وبعد أن أفاض - سبحانه - فى الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
وبعد أن ساق - سبحانه - من التوجيهات الحكيمة ، والإرشادات النافعة ما يشفى الصدور ويهدى النفوس ، بعد كل ذلك ، خاطب - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :
{ تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } .
والمراد بالآيات ما سبق ذكره فى هذه السورة وغيرها من آيات قرآنية تهدى إلى الرشد وتشهد بوحدانية الله - تعالى - وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه .
وكانت الإشارة بتلك الدالة على البعد للإشعار بعلو شأن هذه الآيات وسمو منزلتها وعظم قدرها .
ومعنى { نَتْلُوهَا } نقرؤها عليك يا محمد شيئاً فشيئاً قراءة واضحة جلية لتبلغها للناس على مكث وتدبر وروية .
وأسند - سبحانه - التلاوة إليه مع أن التالى فى الحقيقة جبريل - عليه السلام - للتنيه على شرف هذه الآيات المتلوة ، ولأن تلاوة جبريل إنما هي بأمر منه - سبحانه - .
وقال - سبحانه - { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا } فأظهر لفظ الجلالة ولم يقل تلك آياتنا نتلوها ، ليكون التصريح باسمه - سبحانه - مربيا فى النفوس المهابة والإجلال له ، إذ هو المستحق وحده لوصف الألوهية فلا إله سواه ولا معبود بحق غيره ، وهو ذو الجلال والإكرام ، وهو المنشىء الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه .
فالتصريح باسمه - تعالى - يزيد البيان جلالا ويبعث فى النفوس الخشيية والمراقبة والبعد عما يوجب العقاب والإقبال على ما يوصل إلى الثواب .
وقوله { بالحق } في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول .
أى نتلوها عليك متلبسة بالحق أو متلبسين بالصدق أو العدل فى كل ما دلت عليه هذه الايات ونطقت به ، مما لا تختلف فيه العقول السليمة ، والمدارك القويمة
وقوله - تعالى - { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } نفى للظلم بأبلغ وجه فإنه - سبحانه - لم ينف فقط الظلم عن ذاته بل نفى عن ذاته إرادة الظلم إذ هو أمر يليق به - سبحانه - ولا يتصور وقوعه منه .
وكيف يريد الظلم من منح هذا العالم كله الوجود ، وخلق هذا الكون برحمته وقدرته وعدله ؟ والظلم - كما يقول الراغب - وضع الشىء فى غير موضعه المختص به إما بزيادة أو بنقصان وإما بعدول عن وقته ومكانه ، ومن هذا يقال : ظلمت السقاء إذا تناولته فى غير وقته ، وظلمت الأرض إذا حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر .
وقال بعض الحكماء : الظلم ثلاثة أنواع :
الأول : ظلم بين الإنسان وبين الله - تعالى - وأعظمه الكفر والشرك والنفاق وإياه قصد - سبحانه - بقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والثانى : ظلم بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } والثالث : ظلم بينه وبين نفسه وإياه قصد بقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } والظلم الذى نفى إرادته - سبحانه - عن ذاته عام لا يخص نوعا دون نوع ، إذ من المعروف عند علماء اللغة أن النكرة فى سياق النفى تعم ، وهنا جاء لفظ الظلم منكراً فى سياق النفى وهو ما .
قال الجمل واللام فى قوله { لِّلْعَالَمِينَ } زائدة لا تعلق لها بشىء زيدت فى مفعول المصدر وهو " ظلم " والفاعل محذوف . وهو فى التقدير ضمير البارىء - سبحانه - والمعنى ما الله يريد أن يظلم العالمين ، فزيدت اللام تقوية للعامل كقوله { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }
ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة ، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة . وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة . والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة . وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض . ورجعة الأمر إليه في كل حال :
( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وما الله يريد ظلما للعالمين ) . ( ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور ) . .
تلك الصور . تلك الحقائق . تلك المصائر . . تلك آيات الله وبيناته لعباده : نتلوها عليك بالحق . فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم ؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات . وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها ؛ وممن له الحق في تقرير القيم ، وتقرير المصائر ، وتوقيع الجزاءات . وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما . فهو الحكم العدل . وهو المالك لأمر السماوات والأرض .
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { تِلكَ آيَاتِ اللّهُ } : هذه آيات الله وقد بينا كيف وضعت العرب «تلك » و«ذلك » مكان «هذا » و«هذه » في غير هذا الموضع فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته . وقوله : { آياتُ اللّهِ } يعني : مواعظ الله ، وعبره وحججه . { نَتْلُوها عَلَيْكَ } نقرؤها عليك ونقصها . { بالحَقّ } يعني : بالصدق واليقين وإنما يعني بقوله : { تِلْكَ آياتُ اللّهِ } هذه الاَيات التي ذكر فيها أمور المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب ، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده وبالمبدلين دينه والناقضين عهده بعد الإقرار به . ثم أخبر عزّ وجلّ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك عليه بالحقّ وأعلمه أن من عاقبه من خلقه بما أخبر أنه معاقبه من تسويد وجهه وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه ومن جازاه منهم بما جازاه من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه بتخليده في دائم نعيمه فبغير ظلم منه لفريق منهم بل لحقّ استوجبوه وأعمال لهم سلفت ، جازاهم عليها ، فقال تعالى ذكره : { وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما للعالَمِينَ } يعني بذلك : وليس الله يا محمد بتسويد وجوه هؤلاء ، وإذاقتهم العذاب العظيم¹ وتبييض وجوه هؤلاء ، وتنعيمه إياهم في جنته ، طالبا وضع شيء مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه ، إعلاما بذلك عباده ، أنه لن يصلح في حكمته بخلقه ، غير ما وعد أهل طاعته والإيمان به ، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به ، وإنذارا منه هؤلاء وتبشيرا منه هؤلاء .
{ تلك آيات الله } الواردة في وعده ووعيده { نتلوها عليك بالحق } ملتبسة بالحق لا شبهة فيها . { وما الله يريد ظلما للعالمين } إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه ، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله ، لأنه المالك على الإطلاق كما قال .
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور } فيجازي كلا بما وعد له وأوعد .
الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين ، ولما كان فيها ذكر التعذيب ، أخبر تعالى : أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد ، وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة ، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى ، وقوله تعالى : { بالحق } معناه : الإخبار الحق ، ويحتمل أن يكون المعنى : { نتلوها عليك } مضمنة الأفاعيل التي هي «حق » في أنفسها ، من كرامة قوم ، وتعذيب آخرين ، وقرأ أبو نهيك : «يتلوها » بالياء ، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلماً في حكمه ، فإذا لا يوجد{[3413]} .
تذييلات ، والإشارة في قوله { تلك } إلى ائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله { نتلوها عليك بالحق } .
والتلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه وهي كالقراءة إلاّ أن القراءة تختصّ بحكاية كلام مكتوب فيتّجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوءة بقوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [ آل عمران : 59 ] إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل ، وهو قوله { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] فيكون كل تذييل مستقلاً بطائفة الجمل الَّتي وقع هو عقبها .
وخصّت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام ، والمبطلة لدعاوي الفرق الثلاث من اليهود والنَّصارى والمشركين ، مثل قوله { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [ آل عمران : 59 ] وقوله { ومَا من إله إلاّ إله واحد } [ المائدة : 74 ] الآية . وقوله { فلِمَ تُحاجّون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ] الآية . وقوله { إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } [ آل عمران : 68 ] الآية . وقوله { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة } [ آل عمران : 79 ] الآية . وقوله { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } [ آل عمران : 81 ] الآية . وقوله { فأتوا بالتَّوراة فاتلوها } [ آل عمران : 93 ] وقوله { إنّ أول بين وضع للناس للذي ببكة مباركاً } [ آل عمران : 96 ] ، وما تخلّل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد .
والباء في قوله { بالحق } للملابسة ، وهي ملابسة الإخبار للمخبَر عنه ، أي لما في نفس الأمر والواقع ، فهذه الآيات بيّنت عقائد أهل الكتاب وفصّلت أحوالهم في الدنيا والآخرة .
ومن الحقّ استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلاً من الله ، ولذا قال { وما الله يريد ظلماً للعالمين } أي لا يريد أن يظلم النَّاس ولو شاء ذلك لفعله ، لكنَّه وعَد بأن لا يظلم أحداً فحقّ وعدُه ، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه ، وإنَّما الخلاف في جواز ذلك واستحالته .
وجيء بالمسند فعلاً لإفادة تقوي الحكم ، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى ، وتنكير ( ظلماً ) في سياق النَّفي يدلّ على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلّق به إرادة الله ، فكلّ ما يعدّظلماً في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى .