28- يا سلالة هارون النبي التقى الورع ، كيف تأتين ما أتيت وما كان أبوك فاسد الأخلاق وما كانت أمك فاجرة{[125]} .
قوله تعالى : { يا أخت هارون } ، يريد يا شبيهة هارون ، قال قتادة وغيره : كان هارون رجلاً صالحاً عابداً في بني إسرائيل . روي أنه اتبع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل سوى سائر الناس ، شبهوها به على معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح . وليس المراد منه الأخوة في النسب ، كما قال الله تعالى : { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 27 ] أي : أشباههم .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى ، أنا إبراهيم بن محمد ثنا ابن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا ابن إدريس عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : " لما قدمت نجران سألوني ، فقالوا : إنكم تقرؤون : { يا أخت هارون } و موسى قبل عيسى بكذا وكذا ! فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " . وقال الكلبي : كان هارون أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل . وقال السدي : إنما عنوا به هارون أخا موسى ، لأنها كانت من نسله ، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم . وقيل : كان هارون رجلاً فاسقاً في بني إسرائيل عظيم الفسق فشبهوها به . { ما كان أبوك } ، عمران ، { امرأ سوء } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : زانيا ، { وما كانت أمك } ، حنة ، { بغياً } ، أي زانية ، فمن أين لك هذا الولد ؟ .
{ يَا أُخْتَ هَارُونَ ْ } الظاهر ، أنه أخ لها حقيقي ، فنسبوها إليه ، وكانوا يسمون بأسماء الأنبياء وليس هو هارون بن عمران أخا موسى ، لأن بينهما قرونا كثيرة { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ْ } أي : لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر ، وخصوصا هذا الشر ، الذي يشيرون إليه ، وقصدهم : فكيف كنت على غير وصفهما ؟ وأتيت بما لم يأتيا به ؟ . وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض ، في الصلاح وضده ، فتعجبوا - بحسب ما قام بقلوبهم - كيف وقع منها .
{ يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ }
أى : ما كان أبوك رجلاً زانياً أو معروفاً بالفحش { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أى : تتعاطى الزنا . يقال : بغت المرأة ، إذا فجرت وابتعدت عن طريق الطهر والعفاف .
وليس المراد بهارون : هارون بن عمران أخا موسى ، وإنما المراد به رجل من قومها معروف بالصلاح والتقوى ، فشبهت به ، أى : يا أخت هارون فى الصلاح والتقوى .
أو المراد به أخ لها كان يسمى بهذا الاسم .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وقوله : { ياأخت هَارُونَ } استئناف لتجديد التعيير ، وتأكيد التوبيخ ، وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران - عليهما السلام - لما أخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذى ، والنسائى ، والطبرانى ، وابن حبان ، وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرأون : { ياأخت هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا . قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " .
وعن قتادة قال : " هو رجل صالح فى بنى إسرائيل ، والأخت على هذا بمعنى المشابهة ، وشبهوها به تهكماً ، أو لما رأوا قبل من صلاحها . . " .
وعلى أية حال فإن مرادهم بقولهم هذا ، هو اتهام مريم بما هى بريئة منه ، والتعجب من حالها ، حيث انحدرت من أصول صالحة طاهرة ، ومع ذلك لم تنهج نهجهم .
ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير : ( يا أخت هارون )النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل . فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه ! ( ما كان أبوك امرأ سوء ، وما كانت أمك بغيا )حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً } .
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لها : يا أخت هارون ، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله ، وأخبر أنهم نسبوا مريم إلى أنها أخته ، فقال بعضهم : قيل لها يا أُخْتَ هارُونَ نسبة منهم لها إلى الصلاح ، لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون ، وليس بهارون أخي موسى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : يا أُخْتَ هارُونَ قال : كان رجلاً صالحا في بني إسرائيل يسمى هارون ، فشبّهوها به ، فقالوا : يا شبيهة هارون في الصلاح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ وَما كانَتِ أُمّكِ بَغِيّا قال : كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح ، ولا يُعرفون بالفساد ومن الناس من يُعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يُعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته ، وليس بهارون أخي موسى ، ولكنه هارون آخر . قال : وذُكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا ، كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن كعبا قال : إن قوله : يا أُخْتَ هارُونَ ليس بهارون أخي موسى ، قال : فقالت له عائشة : كذبت ، قال : يا أمّ المؤمنين ، إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ستّ مئة سنة ، قال : فسكتت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أُخْتَ هارُونَ قال : اسم واطأ اسما ، كم بين هارون وبينهما من الأمم أمم كثيرة .
حدثنا أبو كريب وابن المثنى وسفيان وابن وكيع وأبو السائب ، قالوا : حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي ، قال : سمعت أبي يذكر عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران ، فقالوا لي : ألستم تقرأون يا أُخْتَ هارُونَ ؟ قلت : بلى وقد علمتم ما كان بين عيسى وموسى ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : «ألا أخْبَرْتَهُمْ أنّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأنْبِيائهِمْ وَالصّالِحِينَ قَبْلَهُمْ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : أرسلني النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض حوائجه إلى أهل نجران ، فقالوا : أليس نبيك يزعم أن هارون أخو مريم هو أخو موسى ؟ فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال : «إنّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأسْماءِ مَنْ كانَ قَبْلَهُمْ » .
وقال بعضهم : عنى به هارون أخو موسى ، ونُسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده ، يقال للتميميّ : يا أخا تميم ، وللمُضَرِيّ : يا أخا مُضَر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ يا أُخْتَ هارُونَ قال : كانت من بني هارون أخي موسى ، وهو كما تقول : يا أخا بني فلان .
وقال آخرون : بل كان ذلك رجلاً منهم فاسقا معلن الفسق ، فنسبوها إليه .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه ، وأنها نسبت إلى رجل من قومها .
وقوله : ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ يقول : ما كان أبوك رجل سوء يأتي الفواحش وَما كانَتْ أُمُكِ بَغِيّا يقول : وما كانت أمك زانية ، كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَما كانَتْ أُمّكِ بَغِيّا قال : زانية . وقال : وَما كانَتْ أُمّكِ بَغِيّا ولم يقل : بغيّة ، لأن ذلك مما يوصف به النساء دون الرجال ، فجري مجرى امرأة حائض وطالق ، وقد كان بعضهم يشبه ذلك بقولهم : ملحفة جديدة وامرأة قتيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أخت هارون} الذي هو أخو موسى... لأنها كانت من نسله، {ما كان أبوك} عمران، {امرأ سوء}، يعني: بزان، كقوله سبحانه: {من أراد بأهلك سوءا} [يوسف:25]، يعني: الزنا، وكقوله سبحانه: {ما علمنا عليه من سوء} [يوسف:51]، وكان عمران من عظماء بني إسرائيل، {وما كانت أمك}... {بغيا}، بزانية، فمن أين هذا الولد؟.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لها:"يا أخت هارون"، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله، وأخبر أنهم نسبوا مريم إلى أنها أخته؛ فقال بعضهم: قيل لها "يا أُخْتَ هارُونَ "نسبة منهم لها إلى الصلاح، لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون، وليس بهارون أخي موسى... عن قتادة... قال: كان رجلاً صالحا في بني إسرائيل يسمى هارون، فشبّهوها به، فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح... حدثنا أبو كريب وابن المثنى وسفيان وابن وكيع وأبو السائب، قالوا: حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي، قال: سمعت أبي يذكر عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا لي: ألستم تقرأون "يا أُخْتَ هارُونَ"؟ قلت: بلى، وقد علمتم ما كان بين عيسى وموسى، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «ألا أخْبَرْتَهُمْ أنّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأنْبِيائهِمْ وَالصّالِحِينَ قَبْلَهُمْ».
وقال بعضهم: عنى به هارون أخو موسى، ونُسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده، يقال للتميميّ: يا أخا تميم، وللمُضَرِيّ: يا أخا مُضَر...
والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه، وأنها نسبت إلى رجل من قومها.
وقوله: "ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ "يقول: ما كان أبوك رجل سوء يأتي الفواحش، "وَما كانَتْ أُمُكِ بَغِيّا" يقول: وما كانت أمك زانية...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} أي ما كان أبوك ما ذكر ولا أمك ولا أنت، فمن أين كان لك هذا. هذا تعريض من الكلام ليس بتصريح، فهو ما ذكرنا أنهم قالوا ذلك على التعجب ليس عل تصريح الفرية والقذف لها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فقالوا لها على سبيل الملامة: يا مَنْ كنا نَعُدُّكِ في الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح... مِنْ أين لكِ هذه الحالة الشنعاء؟...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ونفي البغاء يوجب العفة لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} أي: أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ياأخت هارون} في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام {ما كان أبوك} أي عمران ساعة من الدهر {امرأ سوء} لنقول: نزعك عرق منه {وما كانت أمك} في وقت من الأوقات {بغياً} أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ْ} أي: لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر، وخصوصا هذا الشر، الذي يشيرون إليه، وقصدهم: فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟. وذلك أن الذرية -في الغالب- بعضها من بعض، في الصلاح وضده، فتعجبوا -بحسب ما قام بقلوبهم- كيف وقع منها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير: (يا أخت هارون) النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل. فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه!... (ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا) حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والسّوْء -بفتح السين وسكون الواو-: مصدر ساءه، إذا أضرّ به وأفسد بعض حاله، فإضافة اسمٍ إليه تفيد أنه من شؤونه وأفعاله وأنه هو مصدر له. فمعنى {امْرَأَ سَوْءٍ} رَجلَ عمل مفسد. ومعنى البغي تقدّم قريباً. وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمّها، وخالفت سيرة أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغياً؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغياً فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها. وهم أرادوا ذمّها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مِثل أبويها.