ولهذا قال { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } ليؤمن بها وينقاد لها ، { وَلَّى مُسْتَكْبِرًا } أي : أدبر إدبار مستكبر عنها ، رادٍّ لها ، ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه ، بل أدبر عنها { كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } بل { كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } أي : صمما لا تصل إليه الأصوات ؛ فهذا لا حيلة في هدايته .
{ فَبَشِّرْهُ } بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم ؛ وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة . { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } مؤلم لقلبه ؛ ولبدنه ؛ لا يقادر قدره ؛ ولا يدرى بعظيم أمره ، وهذه بشارة أهل الشر ، فلا نِعْمَتِ البشارة .
ثم فصل - سبحانه - حال هذا الفريق الشقى فقال : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ }أى : على النضر وأمثاله { آيَاتُنَا } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى صدق نبينا صلى الله عليه وسلم .
{ ولى مُسْتَكْبِراً } أى : أعرض عنها بغررو واستعلاء . { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } أى : كأن حاله فى استكباره عن سماع الآيات ، كحال الذى لا يسمعها إطلاقا .
{ كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } أى : كأن فى أدنيه صمما وثقلا ومرضا يحول بينه وبين السماع .
والجملتان الكريمتان حال من قوله { ا مُسْتَكْبِراً } والمقصود بهما توبيخ هذا الشقى وأمثاله ، وذمهم ذما موجعا لإِعراضهم عن الحق .
وقوله - تعالى - : { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } تهكم به ، واستخفاف بتصرفاته .
أى : فبشر هذا الشقى الذى اشترى هلو الحديث ، وأعرض عن آياتنا بالعذاب الأليم ، الذى يناسب غرروه واستكباره .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّىَ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنّ فِيَ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا تُتلى على هذا الذي اشترى لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله ، آيات كتاب الله ، فقرئت عليه ولّى مُسْتَكْبرا يقول : أدبر عنها ، واستكبر استكبارا ، وأعرض عن سماع الحقّ والإجابة عنه كأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرا يقول : ثقلاً ، فلا يطيق من أجله سماعه ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فِي أُذُنَيْهِ وَقْرا قال : ثِقْلاً .
وقوله فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ يقول تعالى ذكره : فبشر هذا المعرض عن آيات الله إذا تُلِيت عليه استكبارا بعذاب له من الله يوم القيامة مُوجع ، وذلك عذاب النار .
{ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } متكبرا لا يعبأ بها . { كأن لم يسمعها } مشابها حاله حال من لم يسمعها . { كأن في أذنيه وقرا } مشابها من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع ، والأولى حال من المستكن في { ولى } أو في { مستكبرا } ، والثانية بدل منها أو حال من المستكن في { لم يسمعها } ويجوز أن يكونا استئنافين ، وقرأ نافع { في أذنيه } . { فبشره بعذاب أليم } أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة وذكر البشارة على التهكم .
ودل قوله { تتلى عليه } أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه . وقوله { ولى } تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى { ثم أدبر يسعى } [ النازعات : 22 ] و { مُسْتَكْبِراً } حال ، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب .
وشُبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه ، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثراً يعقبه إعراضٌ كتأثر الوليد بن المغيرة .
و { كأنْ } مخففة من ( كأنَّ ) وهي في موضع الحال من ضمير { مستكبراً . } وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانياً بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى { كأن لم يسمعها } ومثل هذا التشبيه الثاني قول لبيد :
فتنازعا سَبِطاً يَطير ظلاله *** كدخان مُشْعَلَةٍ يشِبّ ضِرامها
مشموله غُلِثتْ بنابت عَرْفَج *** كدُخان نارٍ سَاطِع أسنامُهـا
والوقر : أصله الثقل ، وشاع في الصمم مجازاً مشهوراً ساوى الحقيقة ، وقد تقدم في قوله { وفي آذانهم وقراً } في سورة الأنعام ( 25 ) . وقرأ نافع في { أذْنيه } بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى ، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل . وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوعِده بعذاب أليم . وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية ، كقول عمرو بن كلثوم :
وقد عذب النضر بالسيف إذ قتل صبراً يوم بدر ، فذلك عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة أشد .