{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ } لأنه تعالى الذي بيده الهداية والإضلال ، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . { أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ } له العزة الكاملة التي قهر بها كل شيء ، وبعزته يكفي عبده ويدفع عنه مكرهم . { ذِي انْتِقَامٍ } ممن عصاه ، فاحذروا موجبات نقمته .
{ وَمَن يَهْدِ الله } أى : ومن يهده الله - تعالى - إلى طريق الحق والصواب .
{ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } أى : فما له من أحد كائنا من كان يستطيع إضلاله .
{ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام } بلى إنه - سبحانه - لعزيز لا يغلبه غالب ، ولا يمانعه مانع ، ولا ينازعه منازع . ولذو انتقام شديد من أعدائه ، ولا يستطيع أحد أن يمنع انتقامه منهم .
اختلفت القرّاء في قراءة : ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عَبْدَهُ فقرأ ذلك بعض قراء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة : «ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عِبادَهُ » على الجماع ، بمعنى : أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفة : بكافَ عَبْدَهُ على التوحيد ، بمعنى : أليس الله بكاف عبده محمدا .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأةِ الأمصار . فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب لصحة مَعْنَيَيْهَما واستفاضة القراءة بهما في قَرَأةِ الأمصار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عِبدَهُ يقول : محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ألَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبدَهُ قال : بلى ، والله ليكفينه الله ويعزّه وينصره كما وعده .
وقوله : ويُخَوّفُونَكَ بالّذِينَ مِنْ دُونِهِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والاَلهة أن تصيبك بسوء ، ببراءتك منها ، وعيبك لها ، والله كافيك ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ويُخَوّفُونَكَ بالّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاَلهة ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام ليكسر العزّى ، فقال سادِنُها ، وهو قيّمها : يا خالد أنا أحذّركها ، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء ، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ويُخَوفُونَكَ بالّذِينَ مِنَ دُونِهِ يقول : بآلهتهم التي كانوا يعبدون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ويُخَوّفُونَكَ بالّذِينَ مِنْ دُونِهِ قال : يخوّفونك بآلهتهم التي من دونه .
وقوله : وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هاد يقول تعالى ذكره : ومن يخذله الله فيضلّه عن طريق الحق وسبيل الرشد ، فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى طريق الحقّ ، وموفّق للإيمان بالله ، وتصديق رسوله ، والعمل بطاعته وَمَنْ يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ يقول : ومن يوفّقه الله للإيمان به ، والعمل بكتابه ، فما له من مضلّ ، يقول : فما له من مزيغ يزيغه عن الحقّ الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفر ألَيسَ اللّهُ بعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ يقول جل ثناؤه : أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه ، ذي انتقام من أعدائه الجاحدين وحدانيته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن يهد الله} لدينه {فما له من مضل} يقول: لا يستطيع أحد أن يضله.
{أليس الله بعزيز} يعني بمنيع في ملكه {ذي انتقام} آية من عدوه يعني كفار مكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَمَنْ يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ": ومن يوفّقه الله للإيمان به، والعمل بكتابه.
"فما له من مضلّ": فما له من مزيغ يزيغه عن الحقّ الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفر.
"ألَيسَ اللّهُ بعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ": أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه، ذي انتقام من أعدائه الجاحدين وحدانيته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أخبر أنه إذا أراد هداية أحدكم لم يملك أحد إضلاله، وإذا أراد إضلال أحد لم يقدر أحد على هدايته؛ ذكر في الدين أن لا أحد يملك دفع من أراد من هدي أو إضلال، ولا منعه عن ذلك على ما ذكر في الرّزق وأسباب العيش، وعلى ما ذكر في الأنفس وحفظها أن لا أحد يملك دفع ما أراد هو، فعلى ذلك في الدين؛ لأن الذّكر خرج في الكل على مخرج واحد...
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} هو على الإيجاب والتقرير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده، وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم في الظاهر علة للنقمة، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة، بلغ النهاية في الحسن قوله: {أليس الله} أي الذي بيده كل شيء {بعزيز} أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم.
{ذي انتقام} أي له هذا الوصف، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو يعلم من يستحق الضلالة فيضله، ومن يستحق الهدى فيهديه. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء.
بلى. وإنه لعزيز قوي. وإنه ليجازي كلاً بما يستحق. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له، وهو كافله وكافيه؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ومَن يَهْدِ الله فما لهُ مِن مُضلٍ} فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين: فريقاً متمسكاً بالله القادر على النفع والضر وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وآخرَ مستمسكاً بالأصنام العاجزة عن الأمرين، فلما بُيّن أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين؛ فلا مطمع للفريق الضال بأن يجرّوا المهتدين إلى ضلالهم.
{أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام}.
تعليل لإِنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام، فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة؛ ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض الأمم مثل عاد وثمود. فإذا كانوا يقرّون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنّه كافٍ عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء، وبانتقامه من الذين يبْتغون لعبده الأذى.
والعزيز: صفة مشبهة مشتقة من العزّ، وهو منَعَة الجانب وأن لا يناله المتسلط وهو ضد الذل.
والانتقام: المكافأة على الشر بشر، وهو مشتق من النقْم وهو الغضب كأنه مطاوعه؛ لأنه مسبب عن النَّقْم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن يهد الله فما له من مضل، ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية، بل إن كلّ حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده، فالذي يضع قدمه في طريق الضلال، ويبذل أقصى جهوده من أجل إطفاء نور الحقّ، ولا يترك أدنى فرصة تتاح له لخداع الآخرين وإضلالهم، فمن البديهي أنّ الله سيضله ولا يكتفي بعدم توفيقه وحسب، وإنّما يعطّل قوى الإدراك والتشخيص التي لديه عن العمل، ويوصد قلبه بالأقفال ويغطي عينيه بالحجب، وهذه هي نتيجة الأعمال التي ارتكبها، أمّا الذين يعزمون على السير إلى الله سبحانه وتعالى بنوايا خالصة، ويخطون الخطوات الأولى في هذا المسير، فإنّ نور الهداية الإلهية يشعّ لينير لهم الطريق، وتهبّ ملائكة الرحمن لمساعدتهم ولتطهير قلوبهم من وساوس الشياطين، فتكون إرادتهم قوية، وخطواتهم ثابتة، واللطف الإلهي ينقذهم من الزلاّت...
وكما هو معروف فإنّ الانتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أن إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع الجزاء، وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإن هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحد ذاتها نوع من أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان...