قوله تعالى : { ليكفروا بما آتيناهم } هذا لام الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } أي :ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم ، { وليتمتعوا } قرأ حمزة ، والكسائي : ساكنة اللام ، وقرأ الباقون بكسرها نسقاً على قوله : ليكفروا ، { فسوف يعلمون } وقيل : من كسر اللام جعلها لام كي وكذلك في ليكفروا ، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما نجى الله هؤلاء المشركين مما كانوا فيه من البحر من الخوف والحذر من الغرق إلى البرّ إذا هم بعد أن صاروا إلى البرّ يشركون بالله الاَلهة والأنداد لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ يقول : ليجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليهم في أنفسهم وأموالهم .
وَلِيَتَمَتّعُوا اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : وَلِيَتَمَتّعُوا بكسر اللام ، بمعنى : وكي يتمتعوا آتيناهم ذلك . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : وَلْيَتَمَتّعُوا بسكون اللام على وجه الوعيد والتوبيخ : أي اكفروا فإنكم سوف تعلمون ماذا يَلْقون من عذاب الله بكفرهم به .
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه بسكون اللام على وجه التهديد والوعيد ، وذلك أن الذين قرءوه بكسر اللام زعموا أنهم إنما اختاروا كسرها عطفا بها على اللام التي في قوله : لِيَكْفُرُوا ، وأن قوله لِيَكْفُرُوا لما كان معناه : كي يكفروا كان الصواب في قوله وَلِيَتَمَتّعُوا أن يكون : وكي يتمتعوا ، إذ كان عطفا على قوله : ليكفروا عندهم ، وليس الذي ذهبوا من ذلك بمذهب ، وذلك لأن لام قوله لِيَكْفُرُوا صلُحت أن تكون بمعنى كي ، لأنها شرط لقوله : إذا هم يشركون بالله كي يكفروا بما آتيناهم من النعم ، وليس ذلك كذلك في قوله وَلِيَتَمَتّعُوا لأن إشراكهم بالله كان كفرا بنعمته ، وليس إشراكهم به تمتعا بالدنيا ، وإن كان الإشراك به يسهل لهم سبيل التمتع بها فإذ كان ذلك كذلك فتوجيهه إلى معنى الوعيد أولى وأحقّ من توجيهه إلى معنى : وكي يتمتعوا . وبعد فقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ : «وتَمَتّعُوا » وذلك دليل على صحة من قرأه بسكون اللام بمعنى الوعيد .
واللام في { لِيَكْفُرُوا } لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل { يشْرِكُون } . والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله { بما آتَيْنَاهُم } فإِن الإِيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على { يشْرِكُون } فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة ، فاللام استعارة تبعية ، شبه المسبَّب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضاً عن فاء التفريع .
وأما اللام في قوله { ولِيَتَمَتَّعُوا } بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب . وقرأه قالون عن نافع وابنُ كثير ، وحمزة والمكسائي وخلف بسكونها فهي لام امر ، وهي بعد حرف العطف تسكَّن وتكْسر ، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله { اعْمَلُوا ما شِئْتُم } [ فصلت : 40 ] وهو عطف جملة التهديد على جملة { فَلَمَّا نَجاهُمْ إِلى البَرِّ } الخ . . . نظير قوله في سورة [ الروم : 34 ] { لِيكفُروا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
والتمتع : الانتفاع القصير زمنُه . وجملة { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } تفريع على التهديد بالوعيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لئلا يكفروا بما أعطيناهم في البحر من العافية حين سلمهم الله عز وجل من البلاء وأنجاهم من اليم، {وليتمتعوا} إلى منتهى آجالهم {فسوف يعلمون} هذا وعيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما نجى الله هؤلاء المشركين مما كانوا فيه من البحر من الخوف والحذر من الغرق إلى البرّ إذا هم بعد أن صاروا إلى البرّ يشركون بالله الآلهة والأنداد "لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ "يقول: ليجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليهم في أنفسهم وأموالهم.
"وَلِيَتَمَتّعُوا" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: "وَلِيَتَمَتّعُوا" بكسر اللام، بمعنى: وكي يتمتعوا آتيناهم ذلك. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: "وَلْيَتَمَتّعُوا" بسكون اللام على وجه الوعيد والتوبيخ: أي اكفروا فإنكم سوف تعلمون ماذا يَلْقون من عذاب الله بكفرهم به.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه بسكون اللام على وجه التهديد والوعيد، وذلك أن الذين قرأوه بكسر اللام زعموا أنهم إنما اختاروا كسرها عطفا بها على اللام التي في قوله: لِيَكْفُرُوا، وأن قوله لِيَكْفُرُوا لما كان معناه: كي يكفروا كان الصواب في قوله وَلِيَتَمَتّعُوا أن يكون: وكي يتمتعوا، إذ كان عطفا على قوله: ليكفروا عندهم، وليس الذي ذهبوا من ذلك بمذهب، وذلك لأن لام قوله لِيَكْفُرُوا صلُحت أن تكون بمعنى كي، لأنها شرط لقوله: إذا هم يشركون بالله كي يكفروا بما آتيناهم من النعم، وليس ذلك كذلك في قوله وَلِيَتَمَتّعُوا لأن إشراكهم بالله كان كفرا بنعمته، وليس إشراكهم به تمتعا بالدنيا، وإن كان الإشراك به يسهل لهم سبيل التمتع بها، فإذ كان ذلك كذلك فتوجيهه إلى معنى الوعيد أولى وأحقّ من توجيهه إلى معنى: وكي يتمتعوا. وبعد فقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ: «وتَمَتّعُوا» وذلك دليل على صحة من قرأه بسكون اللام بمعنى الوعيد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ليكفروا} أي أنجاهم ليكونوا على ما علم منهم أنهم يكونون. وقد علم أنه يكون منهم الكفر، فأنجاهم إلى البر ليكون منهم ما قد علم أنه يكون، ويختارون.
وكان إخلاصهم الدعاء في الفلك، لم يكن إخلاص اختيار، ولكن إخلاص دفع البلاء عن أنفسهم؛ إذ لو كان ذلك إخلاص اختيار لا دفع البلاء لكانوا لا يتركون ذلك في الأحوال كلها. فهذه الآية، وإن كانت في أهل الكفر ففي ذلك أيضا توبيخ لأهل الإسلام لأنهم لا يقومون بالشكر لله وإخلاص العبادة له في حال السعة والنعمة كما يكونون في حال الضيق، فينبههم ليكونوا في الأحوال كلها مخلصين العمل لله شاكرين له لئلا يكون عملهم على حرف وجهة كعمل أهل النفاق وكعمل أولئك الكفرة، والله أعلم.
{فسوف يعلمون} أي سوف يعلمون صدقي في قولي: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] كما عادوا إلى ما كانوا عليه إذا نجاهم من الأهوال التي ابتلوا بها، أي سوف يعلمون ما أوعدهم الرسل...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" وليتمتعوا "أي وليتلذذوا في العاجل من دنياهم، فالتمتع يكون بالمناظر الحسنة، والأصوات المطربة، والمشام الطيبة والمآكل الملذة، ثم قال مهددا لهم "فسوف يعلمون "أي لابد أن يعلموا جزاء ما يفعلونه من الأفعال من طاعة أو معصية، فإن الله يجازيهم بحسبها، وذلك غاية التهديد...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والمعنى: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
واللام في {لِيَكْفُرُواْ} محتملة أن تكون لام كي، وكذلك في {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} فيمن قرأها بالكسر. والمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا -بالعود إلى شركهم- كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة: إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التمتع والتلذذ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له. ونحوه قوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 41].
فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله {بما آتَيْنَاهُم} فإِن الإِيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على {يشْرِكُون} فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة، فاللام استعارة تبعية، شبه المسبَّب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضاً عن فاء التفريع.
والتمتع: الانتفاع القصير زمنُه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والطريف أن جملة (فسوف يعلمون) جاءت بصورة مطلقة، فهي لا تقول: أي شيء يعلمون... بل تقول: سيعلمون عاجلا، هذا هو معنى (فسوف يعلمون)...
إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعاً ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء، فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله، الافتضاح في الدارين، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!...