وقوله : ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذُو مِرّةٍ فقال بعضهم : معناه : ذو خَلْق حَسَن . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ذُو مِرّةٍ قال : ذو منظر حسن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى : ذو خَلْق طويل حسن .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ذو قوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى قال : ذو قوّة جبريل .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ذُو مِرّةٍ قال : ذو قوّة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى قال : ذو قوّة ، المرّة : القوّة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى جبريل عليه السلام .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالمِرّة : صحة الجسم وسلامته من الاَفات والعاهات ، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان ، كان قويا ، وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن المِرة واحدة المِرر ، وإنما أُريد به : ذو مِرّة سوية . وإذا كانت المِرّة صحيحة ، كان الإنسان صحيحا . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ ، وَلا لِذِي مِرّةٍ سِوِيّ » .
وقوله : فاسْتَوَى وَهُوَ بالأُفُقِ الأعْلَى يقول : فاستوى هذا الشديد القويّ وصاحبكم محمد بالأفق الأعلى ، وذلك لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم استوى هو وجبريل عليهما السلام بمطلع الشمس الأعلى ، وهو الأفق الأعلى ، وعطف بقوله : «وهو » على ما في قوله : «فاستوى » من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، والأكثر من كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولوا : استوى هو وفلان ، وقلّما يقولون استوى وفلان وذكر الفرّاء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألَمْ تَرَ أنّ النّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ *** وَلا يَسْتَوِي وَالخِرْوعُ المُتَقَصّفُ
فردّ الخروع على «ما » في يستوي من ذكر النبع ، ومنه قوله الله : أئِذَا كُنّا تُرَابا وآباؤُنا فعطف بالاَباء على المكنيّ في كنا من غير إظهار نحن ، فكذلك قوله : فاسْتَوَى وَهُوَ ، وقد قيل : إن المستوي : هو جبريل ، فإن كان ذلك كذلك ، فلا مُؤْنة في ذلك ، لأن قوله : وهو من ذكر اسم جبريل ، وكأن قائل ذلك وجّه معنى قوله : فاسْتَوَى : أي ارتفع واعتدل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى جبريل عليه السلام.
و { ذو مرة } معناه : ذو قوة ، قاله قتادة وابن زيد والربيع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي »{[10682]} . وأصل المرة من مرائر الحبل{[10683]} ، وهي فتله وإحكام عمله ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بكل ممر الفتل شد بيذبل***{[10684]}
وقال قوم ممن قال إن ذا المرة جبريل . معنى : { ذو مرة } ذو هيئة حسنة وقال آخرون : بل معناه ذو جسم طويل حسن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف{[10685]} .
و { استوى } مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال : إنه لمتصف : ب { شديد القوى } ، وكذلك يجيء قوله : { وهو بالأفق الأعلى } صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو «الأفق الأعلى » ، ويجيء المعنى نحو قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى }{[10686]} [ طه : 5 ] ، ومن قال إن المتصف ب { شديد القوى } هو جبريل عليه السلام قال : إن { استوى } مستند إلى جبريل ، واختلفوا بعد ذلك ، فقال الربيع والزجاج : المعنى : { فاستوى } جبريل في الجو ، وهو إذ ذاك ، { بالأفق الأعلى } إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق ، له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان { قاب قوسين } ، وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائة جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى : { فاستوى } جبريل .
والمِرَّة ، بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة ، تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته ، وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله وصفه بشديد القوى ، وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء ، ولذلك لما ناول الملَك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسراء كأس لَبن وكأسَ خمر ، فاختار اللبن قَال له جبريل : اخترتَ الفِطرة ولو أخذتَ الخمر غَوت أمتك .
وقوله : { فاستوى } مفرع على ما تقدم من قوله : { علمه شديد القوى } .
والفاء لتفصيل { علمه } ، والمستوي هو جبريل . ومعنى استوائه : قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله ، كما يقال : استقل قائماً ، ومثل : بين يدي فلان ، فاستواء جبريل هو مبدأ التهيُّؤ لقبول الرسالة من عند الله ، ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله : { وهو بالأفق الأعلى } . والضمير لجبريل لا محالة ، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي .