قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } هذا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم يعني : إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً نوحى إليهم { فاسألوا أهل الذكر } يعني : أهل التوراة والإنجيل يريد : علماء أهل الكتاب ، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً ، وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر المشركين بمسألتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به . وقال ابن زيد : أراد بالذكر القرآن ، أراد فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن . { إن كنتم لا تعلمون* }
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يكون جميع الرسل من البشر وأن يعيشوا الحياة التى تقتضيها الطبيعة البشرية ، وأن يؤيدهم الله - تعالى - بالمعجزات الدالة على صدقهم ، فقال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا . . . . } .
أى : وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول الكريم - إلى الأمم السابقة إلا رسلا من البشر ، ليعيشوا حياة البشر ، ويتمكنوا من التعامل والتخاطب والتفاهم مع من هم من جنسهم ، ولو كان الرسل من غير البشر لما كانت هناك وشيجة ورابطة بينهم وبين أقوامهم .
وهذه الجملة رد مفحم على المشركين الجاهلين الذين استبعدوا أن يكون الرسول بشرا وقالوا قبل ذلك : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } وقوله - تعالى - : { نوحي إِلَيْهِمْ } استئناف مبين لكيفية الإرسال .
أى : اقتضت حكمتنا أن يكون الرسل من الرجال ، وأن نبلغهم ما نكلفهم به عن طريق الوحى المنزل إليهم من جهتنا .
وقوله - سبحانه - : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } توبيخ لهم وتجهيل ، لأنهم قالوا ما قالوا بدون تعقل أو تدبر .
والمراد بأهل الذكر : علماء أهل الكتاب الذين كان المشركون يرجعون إليهم فى أمور دينهم .
والفاء فى قوله : { فاسئلوا . . . } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه .
أى : ما دامت قد بلغت بكم الجهالة أن تستبعدوا أن يكون الرسول بشرا فاسألوا أهل العلم فى ذلكن فسيبينون لكم أن الرسل السابقين لم يكونوا إلا رجالا .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وسماهم أهل الذكر ، لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء ، مما لم تعرفه العرب ، وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب فى أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن زيد : أراد بالذكر : القرآن . أى : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن . . . .
عطف جواب على جواب . والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم { هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ] إذا أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى ، فبيّن خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشراً وأن الرسالة ليست إلا وحياً من الله لمن اختاره من البشر .
وقوله { إلا رجالاً } يقتضي أن ليس في النساء رسلاً وهذا مجمع عليه . وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أختتِ موسى ومريمَ أم عيسى . ثم عرّض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر ، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان .
وجملة { فاسألوا أهل الذكر } الخ معترضة بين الجمل المتعاطفة .
وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفاتٌ ، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجُعلوا فيه معبّراً عنهم بضمائر الغيبة ، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غُيِّر الكلام إلى الخطاب تسجِيلاً عليهم وتقريعاً لهم بتجهيلهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا} يا معشر كفار مكة {أهل الذكر} يعنى مؤمني أهل التوراة {إن كنتم لا تعلمون} أن الرسل كانوا من البشر فسيخبرونكم أن الله عز وجل ما بعث رسولا إلا من البشر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولاً إلى أمة من الأمم التي خلت قبل أمتك إلا رجالاً مثلهم نوحي إليهم ما نريد أن نوحيه إليهم من أمرنا ونهينا، لا ملائكة، فماذا أنكروا من إرسالنا لك إليهم، وأنت رجل كسائر الرسل الذين قبلك إلى أممهم؟
"فاسأَلُوا أهْلَ الذّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" يقول للقائلين لمحمد صلى الله عليه وسلم في تناجيهم بينهم «هل هذا إلا بشر مثلكم»: فإن أنكرتم وجهلتم أمر الرسل الذين كانوا من قبل محمد، فلم تعلموا أيها القوم أمرهم إنسا كانوا أم ملائكة، فاسألوا أهل الكتب من التوراة والإنجيل ما كانوا، يخبروكم عنهم... وقيل: أهلُ الذكر: أهلُ القرآن.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ووجه اللطف في إرسال البشر أن الشكل إلى شكله آنس، وعنه أفهم، ومن الأنفة منه أبعد، لأنه يجري مجرى النفس، والإنسان لا يأنف من نفسه...
وقال قوم: معناه واسألوا أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم هل كانت رسل الله رجالا من البشر أم لا؟.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
يعني: أهل التوراة والإنجيل يريد: علماء أهل الكتاب، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً، وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر المشركين بمسألتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أحالهم على سؤال {أهل الذكر} من حيث لم يكن عند قريش كتاب ولا أثارة من علم، واختلف الناس في {أهل الذكر} من هم، فروى عبدالله بن سلام أنه قال أنا من أهل الذكر، وقالت فرقة هم أهل القرآن. قال القاضي أبو محمد: وهذا موضع ينبغي أن يُتأمل، وذلك أن الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله تعالى عباده، فأهل القرآن أهل ذكر... وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أُحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد عليه السلام فتجيء شهادتهم بأن الرسل قديماً من البشر لا مطعن فيها لازمة لكفار قريش...
ومن الناس من قال: المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد؛ لأن هذه الآية خطاب مشافهة، وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة، ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
فأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ليزول عنهم الشبهة. والإحالة عليهم إما للإلزام؛ فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ويثقون بقولهم، أو لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفارا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما لم يكن لهم طريق في علم هذا... إلا سؤال من كانوا يفزعون إليهم من أهل الكتاب ليشايعوهم على ما هم عليه من الشك والارتياب، قال: {فسألوا أهل الذكر}، ثم نبه على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما كان قد بلغهم على [الإجمال] من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم الصلاة والسلام بقوله، معبراً بأداة الشكك محركاً لهم إلى المعالي: {إن كنتم} أي بجبلاتكم {لا تعلمون} أي لا أهلية لكم في اقتناص علم، بل كنتم أهل تقليد محض وتبع صرف.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها، ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم، إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه. وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم، نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك، وفي هذه الآية دليل على أن النساء ليس منهن نبية، لا مريم ولا غيرها، لقوله {إِلَّا رِجَالًا}...
المفروض في النبي أن يكون قدوة لقومه وأسوة، مبلغ منهج، وأسوة سلوك، منهج يحققه عن الله، ثم يطبقه على نفسه، فهو لا يحمل الناس على أمر هو عنه بنجوة، إنما هو أسوتهم وقدوتهم، وشرط أساسي في القدوة أن يتحد فيها الجنس: المتأسي مع المتأسى به.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فذلك هو سبيل العلم بما يجهله الناس، وذلك بالرجوع إلى أهل الخبرة في ما يختلفون فيه ليكونوا الحكم الذي يحسم الخلاف.