ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانباً من مظاهر فضله على عباده ، وأقام الأدلة على وحدانيته وقدرته ، فقال - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ . . . كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } .
وقوله - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض } بيان لجانب من فضله - تعالى - على بنى آدم .
و { خَلاَئِفَ } جملة خليفة ، وهو من يخلف غيره .
أى : هو - سبحانه - الذى جعلكم خلفاء فى أرضه ، وملككم كنوزها وخيراتها ومنافعها ، لكى تشكروه على نعمه ، وتخلصوا له العبادة والطاعة .
أو جعلكم خلفاء لمن سبقكم من الأمم البائدة ، فاعتبروا بما أصابهم من النقم بسبب إعراضهم عن الهدى ، واتبعوا ما جاءكم به من رسولكم صلى الله عليه وسلم .
وقوله { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أى : فمن كفر بالحق الذى جاءه به الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر على ذلك ، فعلى نفسه يكون وبال كفره لا على غيره .
{ وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } أى : لا يزيدهم إلا بغضاً شديداً من ربهم لهم ، واحتقارهم لحالهم وغضباً عليهم . .
فالمقت : مصدر بمعنى البغض والكراهية ، وكانوا يقولون لمن يتزوج امرأة أبيه وللولد الذى يأتى عن طريق هذا الزواج ، المقتى ، أى : المبغوض .
{ وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } أى : ولا يزيدهم إصرارهم على كفرهم إلا خسارا وبوارا وهلاكا فى الدنيا والآخرة .
فالآية الكريمة تنفر اشد التنفير من الكفر ، وتؤكد سوء عاقبته ، تارة عن طريق بيان أنه مبغوض من الله - تعالى - ، وتارة عن طريق بيان أن المتلبس به ، لن يزداد إلا خسراناً وبوارا .
{ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها ، وقيل خلفا بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف . { فمن كفر فعليه كفره } جزاء كفره . { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } بيان له ، والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه ، والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة .
و { خلائف } جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن ، وقوله { فعليه كفره } فيه حذف مضاف تقديره «فعليه وبال كفره وضرر كفره » ، و «المقت » احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفاً منك فلا يسمى ذلك مقتاً ، و «الخسار » مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب .
وجملة { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } معترضة بين جملة { إن الله عالم غيب السماوات والأرض } الآية وبين جملة { فمن كفر فعليه كفره } .
والخلائف : جمع خليفة ، وهو الذي يخلف غيره في أمرٍ كانَ لذلك الغير ، كما تقدم عند قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) ، فيجوز أن يكون بعدَ أمم مضت كما في قوله : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } في سورة يونس ( 14 ) فيَكون هذا بياناً لقوله : { إن الله عالم غيب السماوات والأرض } أي هو الذي أوجدكم في الأرض فكيف لا يعلم ما غاب في قلوبكم كما قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] ويكون مَا صْدَف ضمير جماعة المخاطبين شاملاً للمؤمنين وغيرهم من الناس .
ويجوز أن يكون المعنى : هو الذي جعلكم متصرفين في الأرض ، كقوله تعالى : { ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ] ، فيكون الكلام بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله قدّر أن يَكون المسلمون أهل سلطان في الأرض بعد أمم تداولت سيادة العالم ويُظهر بذلك دين الإِسلام على الدين كله .
والجملة الاسمية مفيدة تقوّي الحكم الذي هو جعل الله المخاطبين خلائف في الأرض .
وقد تفرّع على قوله : { عليم بذات الصدور } قولُه : { فمن كفر فعليه كفره } وهو شرط مستعمل كناية عن عدم الاهتمام بأمر دَوامهم على الكفر .
وجملة { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً } بيان لجملة { فمن كفر فعليه كفره } وكان مقتضى ظاهر هذا المعنى أن لا تعطف عليها لأن البيان لا يعطف على المبيَّن ، وإنما خولف ذلك للدلالة على الاهتمام بهذا البيان فجعل مستقلاً بالقصد إلى الإِخبار به فعطفت على الجملة المبيَّنة بمضمونها تنبيهاً على ذلك الاستقلال ، وهذا مقصد يفوت لو ترك العطف ، أما ما تفيده مِن البيان فهو أمر لا يفوت لأنه تقتضيه نسبة معنى الجملة الثانية من معنى الجملة الأولى .
والمقت : البغض مع خزي وصغار ، وتقدم عند قوله تعالى : { إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } في سورة النساء ( 22 ) ، أي يزيدهم مقتَ الله إياهم ، ومقت الله مجاز عن لازمه وهو إمساك لطفه عنهم وجزاؤهم بأشد العقاب .
وتركيب جملة { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً } تركيب عجيب لأن ظاهره يقتضي أن الكافرين كانوا قبل الكفر ممقوتين عند الله فلما كفروا زادهم كفرهم مقتاً عنده ، في حال أن الكفر هو سبب مقت الله إياهم ، ولو لم يكفروا لما مقتهم الله . فتأويل الآية : أنهم لمَّا وصفوا بالكفر ابتداءً ثم أخبر بأن كفرهم يزيدهم مقتاً عُلم أن المراد بكفرهم الثاني الدوام على الكفر يوماً بعد يوم ، وقد كان المشركون يتكبّرون على المسلمين ويُشاقونهم ويؤيسونهم من الطماعية في أن يقبَلوا الإِسلام بأنهم أعظم من أن يتبعوهم وأنهم لا يفارقون دين آبائهم ، ويحسبون ذلك مقتاً منهم للمسلمين فجازاهم الله بزيادة المقت على استمرار الكفر ، قال تعالى : { إن الذين كفروا ينادون لمقت اللَّه أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } [ غافر : 10 ] ، يعني : ينادَون في المحشر ، وكذلك القول في معنى قوله : { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً } .
والخَسار : مصدر خسر مثل الخسارة ، وهو : نقصان التجارة . واستعير لخيبة العمل ؛ شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر والخاسر ، أي الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعاً زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإِفلاس ، وقد تقدم ذلك في آيات كثيرة منها ما في سورة البقرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} من بعد الأمم الخالية {فمن كفر} بتوحيد الله {فعليه} عاقبة {كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا}: الكافر لا يزداد في طول العمل إلا ازداد الله جل وعز له بغضا.
{ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا} لا يزداد الكافرون في طول العمل إلا ازدادوا بكفرهم خسارا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله الذي جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض من بعد عاد وثمود، ومن مضى من قبلكم من الأمم، فجعلكم تخلفونهم في ديارهم ومساكنهم...
وقوله:"فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ" يقول تعالى ذكره: فمن كفر بالله منكم أيها الناس، فعلى نفسه ضرّ كفره، لا يضرّ بذلك غير نفسه، لأنه المعاقب عليه دون غيره. وقوله: "وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إلاّ مَقْتا "يقول تعالى: ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ بُعدا من رحمة الله. "وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إلاّ خَسارا" يقول: ولا يزيد الكافرين كفرهم بالله إلاّ هلاكا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هو الذي جعلكم خلائف في الأرض}... وإنشاء قرن بعد فناء آخر، وإفناء آخر بعد إنشاء آخر وجوه.
أحدها: أن يعرفوا أنه إنما أنشأهم لعاقبة تُقصد وتُتأمّل، حين أنشأ قرنا، ثم أفناهم ثم أنشأ غيرهم، ولم يكن في إنشائهم إلا هذا؛ فعلى ذلك إنشاء هؤلاء في هذه الدنيا، لو لم يكن لعاقبة، كان الإنشاء للفناء، وذلك عبث غير حكمة.
والثاني: أن يعرفوا أن الدنيا ليست هي بدار القرار والمقام، إنما هي مجعولة زادا للآخرة وبُلغة إليها ومسلكا لها ومنزلا يُنزل فيها، ثم يُرتحل.
والثالث: أن يعرفوا أن الآلام التي جُعلت فيها واللذات، ليست بدائمة أبدا، بل على شرف الزوال والتحوّل، لأن في الحياة لذة، وفي الموت ألما، فلا دامت اللذة والألم، لأنه أحيى قرنا، ثم أفناهم.
والرابع: أن يعتبروا بمن تقدم منهم من القرون أنه على ماذا يكون الثناء الحسن، ويبقى الأثر والذِّكر الجميل؟ وبأي عمل ينقطع ويفنى ذلك؟ فمن كان من متّبعي الرسل ودعاة الخير والتوحيد والطاعة، فيبقى له أثر الخير والثناء الحسن والذّكر الجميل، ومن كان من أتباع أهل الكفر والشر لم يبق لهم شيء من ذلك، ليعلموا بالذي يُبقي لهم الثناء الحسن، ويعقب لهم الذكر، لا الذي يقطع ذلك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والخلف هو الثاني للمتقدم، ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله، فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا راضٍ بذلك، وقال بعض السلف إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لا يزيدهم كفرهم بالله عند الله إلا أشد البغض؛ لأن المقت أشد البغض.
"ولا يزيد الكافرين "أيضا "كفرهم إلا خسارا "لأنهم يخسرون الجنة ويحصل لهم النار بدلا منها" وذلك هو الخسران المبين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يقال للمستخلف: خليفة؛ فالخليفة تجمع خلائف والخليف: خلفاء والمعنى أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصريف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة "فمن كفر "منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزي وصغار وخسارة الآخرة الذي ما بقي بعده خسار والمقت: أشد البغض...
{هو الذي جعلكم خلائف في الأرض}: تقريرا لقطع حجتهم فإنهم لما قالوا: {ربنا أخرجنا نعمل صالحا} وقال تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر} إشارة إلى أن التمكين والإمهال مدة يمكن فيها المعرفة قد حصل وما آمنتم، وزاد عليه بقوله: {وجاءكم النذير} أي آتيناكم عقولا، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول، زاد على ذلك بقوله تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} أي نبهكم بمن مضى وحال من انقضى، فإنكم لو لم يحصل لكم علم بأن من كذب الرسل أهلك لكان عنادكم أخفى وفسادكم أخف، لكن أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلائف في الأرض، أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وتصبحون بحالهم راضين.
{فمن كفر} بعد هذا كله {فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا
مقتا} لأن الكافر السابق كان ممقوتا كالعبد الذي لا يخدم سيده، واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت، كالعبد الذي ينصحه الناصح ويأمره بخدمة سيده ويعده ويوعده ولا ينفعه النصح ولا يسعده والتالي لهم الذي رأى عذاب من تقدم ولم يخش عذابه أمقت الكل.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
التكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين، مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به، وإتقان صنعه يدل على تمام قدرة صانعه، وتمام قدرته ملزوم لتمام علمه، قال: {هو} أي وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم.
{الذي جعلكم} أي أيها الناس {خلائف} جمع خليفة، وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به.
ولما كان المراد توهية أمر شركائهم، وكانت تحصل بسلب قدرتهم على ما مكن فيه سبحانه العابدين من الأرض، أدخل الجار دلالة على أنهم على كثرتهم وامتداد أزمنتهم لا يملؤون مسكنهم بتدبيره، لإماتة كل قرن واستخلاف من بعدهم عنهم، ولو لم يمتهم لم تسعهم الأرض مع التوالد على طول الزمان، وهم في الأصل قطعة يسيرة من ترابها فقال: {في الأرض} أي فيما أنتم فيه منها لا غيره، تتصرفون فيه بما قدرتم عليه، ولو شاء لم يصرفكم فيه، فمن حقه أن تشكروه ولا تكفروه.
ولما كان كون الشيء على الشيء محتملاً لأمور، بيّن حاله بقوله، مؤكداً لأجل من يتوهم أن بسط الدنيا على الفاجر ربح وإكرام من الله له: {ولا} أي والحال لأنه لا.
{يزيد الكافرين} أي المغطين للحق {كفرهم} أي الذي هم متلبسون به ظانون أنه يسعدهم وهم راسخون فيه غير متمكنين عنه، ولذا لم يقل: لا يزيد من كفر لأنه قد يكون كفره غير راسخ فيسلم.
{عند ربهم} أي المحسن إليهم {إلا مقتاً} أي لأنه يعاملهم معاملة من يبغض ويحتقر أشد بغض واحتقار.
ولما كان المراد من هذه الصفات في حق الله تعالى غاياتها، وكان ذكرها إنما هو تصوير لها بأفظع صورها لزيادة التنفير من أسبابها، وكانوا ينكحون نساء الآباء مع أنهم يسمونه نكاح المقت، نبه على أنهم لا يبالون بالتمقت إلى المحسن، فقال ذاكراً للغاية مبيناً أن محط نظرهم الخسارة المالية تسفيلاً لهممهم زيادة في توبيخهم: {ولا يزيد الكافرين} أي العريقين في صفة التغطية للحق {كفرهم إلا خساراً} أي في الدنيا والآخرة في المال والنفس وهو نهاية ما يفعله الماقت بالممقوت...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا المقطع الأخير في السورة يشتمل عل جولات واسعة المدى كذلك، ولمسات للقلب وإيحاءات شتى:جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة، يخلف بعضها بعضاً. وجولة في الأرض والسماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله. وجولة في السماوات والأرض كذلك لرؤية يد الله القوية القادرة تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا. وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً. وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة الله الجارية.. ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة). وفضل الله العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الأخذ المدمر المبيد..
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض. فمن كفر فعليه كفره. ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا. ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً).
إن تتابع الأجيال في الأرض، وذهاب جيل ومجيء جيل، ووراثة هذا لذاك، وانتهاء دولة وقيام دولة، وانطفاء شعلة واتقاد شعلة. وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور.. إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة، وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين، يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم، كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم. وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار، وتقلب الصولجان، وتديل الدول، وتورث الملك، وتجعل من الجيل خليفة لجيل. وكل شيء يمضي وينتهي ويزول، والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول.
ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي، فلا يخلد ولا يبقى. من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل؛ وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل، وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل. من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل، ويترك وراءه الذكر الجميل، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير.
هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر، حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور، والطلوع والأفول، والدول الدائلة، والحياة الزائلة، والوراثة الدائبة جيلاً بعد جيل:
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)..
وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر، يذكرهم بفردية التبعة، فلا يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً؛ ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال، وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف:
(فمن كفر فعليه كفره. ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً. ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً).
والمقت أشد البغض. ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره؟ وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخلائف: جمع خليفة، وهو الذي يخلف غيره في أمرٍ كانَ لذلك الغير، كما تقدم عند قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} في سورة البقرة (30)، فيجوز أن يكون بعدَ أمم مضت كما في قوله: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} في سورة يونس (14) فيَكون هذا بياناً لقوله: {إن الله عالم غيب السماوات والأرض} أي هو الذي أوجدكم في الأرض فكيف لا يعلم ما غاب في قلوبكم كما قال تعالى:
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ويكون مَا صْدَف ضمير جماعة المخاطبين شاملاً للمؤمنين وغيرهم من الناس. ويجوز أن يكون المعنى: هو الذي جعلكم متصرفين في الأرض، كقوله تعالى: {ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف: 129]، فيكون الكلام بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله قدّر أن يَكون المسلمون أهل سلطان في الأرض بعد أمم تداولت سيادة العالم ويُظهر بذلك دين الإِسلام على الدين كله.
والجملة الاسمية مفيدة تقوّي الحكم الذي هو جعل الله المخاطبين خلائف في الأرض.
وقد تفرّع على قوله: {عليم بذات الصدور} قولُه: {فمن كفر فعليه كفره} وهو شرط مستعمل كناية عن عدم الاهتمام بأمر دَوامهم على الكفر.
{ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً} بيان لجملة {فمن كفر فعليه كفره} وكان مقتضى ظاهر هذا المعنى، أن لا تعطف عليها لأن البيان لا يعطف على المبيَّن، وإنما خولف ذلك للدلالة على الاهتمام بهذا البيان فجعل مستقلاً بالقصد إلى الإِخبار به فعطفت على الجملة المبيَّنة بمضمونها تنبيهاً على ذلك الاستقلال، وهذا مقصد يفوت لو ترك العطف.
تركيب جملة {ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً} تركيب عجيب لأن ظاهره يقتضي أن الكافرين كانوا قبل الكفر ممقوتين عند الله، فلما كفروا زادهم كفرهم مقتاً عنده، في حال أن الكفر هو سبب مقت الله إياهم، ولو لم يكفروا لما مقتهم الله؛ فتأويل الآية: أنهم لمَّا وصفوا بالكفر ابتداءً ثم أخبر بأن كفرهم يزيدهم مقتاً، عُلم أن المراد بكفرهم الثاني؛ الدوام على الكفر يوماً بعد يوم، وقد كان المشركون يتكبّرون على المسلمين ويُشاقونهم ويؤيسونهم من الطماعية في أن يقبَلوا الإِسلام بأنهم أعظم من أن يتبعوهم، وأنهم لا يفارقون دين آبائهم، ويحسبون ذلك مقتاً منهم للمسلمين، فجازاهم الله بزيادة المقت على استمرار الكفر، قال تعالى:
{إن الذين كفروا ينادون لمقت اللَّه أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} [غافر: 10]، يعني: ينادَون في المحشر، وكذلك القول في معنى قوله:
{ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً}، والخَسار: مصدر خسر مثل الخسارة، وهو: نقصان التجارة. واستعير لخيبة العمل؛ شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر الخاسر: الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعاً زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإِفلاس.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وجه كتاب الله الخطاب من جديد إلى كافة البشر، ولا سيما الجاحدين والمعاندين ملقيا على عواتقهم مسؤولياتهم عن أنفسهم إيمانا أو كفرا، وعن الخلافة الموكولة إليهم فسادا أو إصلاحا...