قوله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك } . قالت لها الملائكة شفاها ، أي أطيعي ربك ، وقال مجاهد : أطيلي القيام في الصلاة لربك ، والقنوت : الطاعة ، وقيل : القنوت طول القيام . قال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً .
قوله تعالى : { واسجدي واركعي } . قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم ، وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها ، وليس الواو للترتيب بل للجمع ، يجوز أن يقول الرجل رأيت زيداً وعمراً ، وإن كان قد رأى عمراً قبل زيد .
قوله تعالى : { مع الراكعين } . ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل معناه : مع المصلين في الجماعة .
ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله - تعالى - ومن المداومة على طاعته شكراً له فقال - تعالى - :
{ يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } .
القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها ، مع استشعار الخشوع والخضوع لله رب العالمين .
أى : قالت الملائكة أيضاً لمريم : يا مريم أخلصى لله وحده وداومى عليها ، وأكثرى من السجود لله ومن الركوع مع الراكعين ، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربا وحبا من خالقه - عز وجل - .
فالآية الكريمة دعوة قوية من الله - تعالى - لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة .
قال صاحب الكشاف : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها { واركعي مَعَ الراكعين } بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة ، أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكونى معهم في عدادهم ولا تكونى في عداد غيرهم .
فأنت ترى فى هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول ، فلقد أخبر - سبحانه - باصطفائها صغيرة وكبيرة ، وبطهرها من كل سوء ، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى ، وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من خوارق ، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم ، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هى بريئة منه ، ثم بعد ذلك يأمرها - سبحانه - بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع لله رب العالمين .
وبذلك يتبين لكل ذى عقل سليم أن الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق ، لأنه قد قال القول الحق في شأن مريم وابنها عيسى - عليه السلام - أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا في شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران .
ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها ، لما يريد الله
[ تعالى ]{[5016]} بها من الأمر الذي قدره وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدًا من غير أب ، فقال تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع{[5017]} كما قال تعالى : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }{[5018]} [ البقرة : 116 ] .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ " . ورواه ابن جرير من حديث{[5019]} ابن لهيعة ، عن دَرّاج ، به ، وفيه نكارة{[5020]}
وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو : طول الركوع{[5021]} في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : كوني منهم .
وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها ، رضي الله عنها .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي - وفيه مقال - : حدثنا علي بن بحر بن بَرّي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي } قال : سَجَدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها{[5022]} {[5023]} .
وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن شَوْذَب قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة .
{ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها ، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب ، أو ليقترن اركعي بالراكعين للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين . وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعة كقوله تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } وبالسجود الصلاة كقوله تعالى : { وأدبار السجود } وبالركوع الخشوع والإخبات .
و{ اقنتي } معناه اعبدي وأطيعي ، قاله قتادة والحسن ، وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي عليه السلام قال :< كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله{[3167]}> ويحتمل أن يكون معناه ، أطيلي القيام في الصلاة ، وهذا هو قول الجمهور ، وهو المناسب في المعنى لقوله : { واسجدي واركعي } وبه قال مجاهد ، وابن جريج ، والربيع وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا ، قامت حتى ورمت قدماها{[3168]} ، وروى الأوزاعي ، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها ، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها ، تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها ، وقال سعيد بن جبير ، { اقنتي لربك } ، معناه أخلصي لربك ، واختلف المتأولون ، لم قدم السجود على الركوع ؟ فقال قوم : كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم : الواو لا تعطي رتبة ، وإنما المعنى ، افعلي هذا وهذا ، وقد علم تقديم الركوع ، وهذه الآية أكثر إشكالاً من قولنا ، قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك{[3169]} ، فالقول عندي في ذلك ، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة ، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى : وهذان يختصان بصلاتها مفردة ، وإلا فيمن يصلي وراء إمام ، فليس يقال له أطل قيامك ، ثم أمرت -بعد - بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها ، { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم من معالم الصلاة ، لئلا يتكرر لفظ ، ولم يرد بالآية السجود والركوع ، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم .