لقد حكى القرآن ما كان منهم من جحود وبطر فقال : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ } .
قال صاحب الكشاف : " أى وضعوا مكان حطة قولا غيرها ، يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ، ولم يمتثلوا أمر الله ، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يؤخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف هنا وما أشبه ذلك " .
وقال الإمام ابن كثير : " وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل . فقد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا فدخلوا يزحفون على أستاهم رافعى رؤوسهم . وأمروا أن يقولوا حطة - أى احطط عنا ذنوبنا - فاستهزأوا وقالوا حنظة في شعيرة . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسهم وخروجهم عن طاعته .
وأخرج البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قيل لبنى إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا . حبة في شعيرة " .
والعبرة التي تؤخذ من هذه الجملة الكريمة أن من أمره الله - تعالى - بقول أو فعل فتركه وأتى بآخر لم يأذن به الله دخل في زمرة الظالمين ، وعرض نفسه لسوء المصير .
وقوله - تعالى - { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } تصريح بأن ما أصابهم من عذاب كان نتيجة عصيانهم وتمردهم وجحودهم لنعم الله .
والرجز : هو العذاب ، سواء أكان بالأمراض المختلفة أو بغيرها .
وفى النص على أن الرجز قد أتاهم من السماء إشعار بأنه عذاب لا يمكن دفعه ، وأنه لم يكن له سبب أرضى من عدوى أو نحوها ، بل رمتهم به الملائكة من جهة السماء فأصيب به الذين ظلموا دون غيرهم .
هذا وقد وردت في سورة البقرة آيتان تشبهان في ألفاظهما هاتين الآيتين اللتين معنا هنا في سورة الأعراف ، أما آيتا سورة البقرة فهما قوله - تعالى - :
{ وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } وقد عقد الإمام الرازى مقارنة بين أسولب الآيتين في كل من السورتين فقال ما ملخصه : إن ألفاظ الآيتين في سورة الأعراف تخالف ألفاظ آيتى سورة البقرة من وجوه :
الأول : أنه قال - سبحانه - في سورة البقرة : { وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية } وهنا قال : وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية .
الثانى : أنه قال في سورة البقرة : ( فَكُلُواْ ) بالفاء ، وقال هنا { وَكُلُواْ } بالواو .
الثالث : أنه قال في سورة البقرة : ( رَغَداً ) وهذه الكلمة غير مذكورة هنا .
الرابع : أنه قال في سورة البقرة : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } وقال ها هنا { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم } .
السادس : أنه قال في سورة البقرة : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } وها هنا حذف حرف الواو .
السابع : أنه قال في سورة البقرة : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ } وقال ها هنا { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } .
الثامن : أنه قال في سورة البقرة : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } وقال ها هنا { بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } .
واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ، ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة من وجوه .
الأول : وهو أنه قال في سورة البقرة { ادخلوا هذه القرية } وقال ها هنا اسكنوا ، فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولا ثم سكناها ثانيا .
الثانى : أنه هناك قال ( فَكُلُواْ ) بالفاء وهنا بالواو . والفرق أن الدخول حالة مخصوصة ، فإنه إنما يكون داخلا في أول دخوله ، وأما ما بعد ذلك فيكون سكونا لا دخولا ، إذا ثبت هذا فنقول : الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم أن يحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال : { ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ } وأما السكون فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلا معه لا عقيبه ، فظهر الفرق .
وأما الثالث : وأنه ذكر هناك ( رَغَداً ) ولم يذكره هنا ، فالفرق أن الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ ، لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ، ولما كان الأمر كذلك ذكر كلمة " رغدا " وأما الأكل حال سكون القرية فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ولم تكن اللذة فيه متكاملة . فلا جرم ترك قوله ( رغدا ) فيه .
وأما الرابع : وقو قوله هناك { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } وهنا على العكس ، فالمراد التنبيه على أنه لا منافاة في ذلك ، لأن المقصود هو تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له ، فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير .
وأما الخامس : وهو أنه قال هناك ( خَطَايَاكُمْ ) وقال هنا { خطيائاتكم } فهو إشارة إلى أ ، هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهى مغفورة عند الإتيان بهذا التضرع والدعاء .
وأما السادس : وهو قوله هناك { وَسَنَزِيدُ المحسنين } بالواو ، وقال هنا { سَنَزِيدُ } بحذفها ، فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين : بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل ماذا بعد الغفران فقيل : إنه سيزيد المحسنين .
وأما السابع : وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا ، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها . فكأنه - سبحانه - بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً .
وأما الثامن : فهو الفرق بين قوله هناك ( يَفْسُقُونَ ) وقوله هنا { يَظْلِمُونَ } فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم ، وبكونهم فاسقين لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله . فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين منهم .
ثم قال : فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة ، وتمام العلم بها عند الله - تعالى - " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أن بنى إسرائيل مكنوا من النعمة فنفروا منها ، وفتحت لهم أبواب الخير فأبوا دخولها ، فكانت عاقبتهم أن محقت النعم من بين أيديهم ، وسلط الله عليهم عذابا شديدا من عنده بسبب ظلمهم وفسوقهم عن أمره .
وفى ذلك إثارة لحسرة اليهود المعاصرين للعهد النبوى على ما ضاع من أسلافهم بسبب انتهاكهم لحرمات الله وتحذير لهم من سلوك طريق آبائهم حتى لا يصيبهم ما أصابهم من عذاب أليم .
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن رذيلة أخرى من رذائل بنى إسرائيل الكثيرة ، وهى تحايلهم على استحلال محارم الله بسبب جهلهم وجشعهم وضعف إرادتهم .
وذلك أن الله - تعالى - أخذ عليهم عهدا بأن يتفرغوا لعبادته في يوم السبت ، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام ، واختباراً منه - سبحانه - لإيمانهم ووفائهم بعهودهم أرسل إليهم الحيتان في يوم السبت دون غيره ، فكانت تتراءى لهم على الساحل في ذلك اليوم ، قريبة المأخذ ، سلهة الاصطياد .
وهنا سال لعاب شهواتهم ومطامعهم وفكروا في حيلة لاصطياد هذه الحيتان في يوم السبت فقالوا : لا مانع من أن نحفر إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك في يوم السبت أحواضا تنساب إليها المياه ومعها الأسماك ، ثم نترك هذه الأسماك محبوسة في الأحواض في يوم السبت - لأنها لا تستيطع الرجوع إلى البحر لضآلة الماء الذي في الأحواض . ثم نصطادها بعد ذلك في غير يوم السبت ، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا في يوم السبت وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك .
ولقد نصحهم الناصحون بأن عملهم هذا هو احتيال على محارم الله ، وأن حبس الحيتان في الأحواض هو صيد لها في المعنى ، وهو فسوق عن أمر الله ونقض لعهوده .
ولكنهم لجهلهم واستيلاء المطامع على نفوسهم لم يعبأوا بنصح الناصحين بل نفذوا حيلتهم الشيطانية ، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة ، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم وموعظة للمتقين .
واستمع إلى سورة الأعراف وهى تحكى لنا هذه القصة بأسلوبها البليغ فتقول : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية . . . . } .
تقدم تفسير هذا كله في سورة " البقرة " ، وهي مدنية ، وهذا السياق مكي ، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته ، ولله الحمد والمنة{[12274]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فغير الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول ، فقالوا : وقد قيل لهم قولوا هذه حطة : حنطة في شعيرة وقولهم ذلك كذلك هو غير القول الذي قيل لهم قولوه . يقول الله تعالى : فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزا مِنَ السّماءِ : بعثنا عليهم عذابا أهلكناهم بما كانوا يغيّرون ما يُؤمرون به ، فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله ويقولون غير الذي أمرهم الله بقيله . وقد بيّنا معنى الرجز فيما مضى .
وقع في هذه الآية { فبدل الذين ظلموا منهم } ولم يقع لفظ { منهم } في سورة البقرة ، ووجه زيادتها هنا التصريحُ بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم ، وأجمل ذلك في سورة البقرة لأن آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم ، لأن تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها .
وقدم في سورة البقرة ( 58 ) قوله : { وادخلوا الباب سجداً } على قوله : { وقولوا حطة } [ البقرة : 58 ] وعُكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن ، فإن كلا القولين واقع قُدّم أو أُخّر .
وذكر في البقرة ( 58 ) : { وكلوا منها حيث شئتم رَغَداً } ولم يذكر وصف رغداً هنا ، وإنما حكي في سورة البقرة ، لأن زيادة المنة أدخل في تقوية التوبيخ .
وجملة { سنزيد المحسنين } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله : { تُغفرْ لكم } في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائِل يقول : وهل الغفران هو قصارىَ جزائِهم ؟ فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان ، أي على الامتثال .
وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة ( 58 ) ذكرت جملة { وسنزيد المحسنين } معطوفة بالواو على تقدير : قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين ، فالواو هنالك لحكاية الأقوال ، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب { تُغفر } بمثناة فوقية مبنياً للمجهول ، و { خطيئاتُكم } بصيغة جمع السلامة للمؤنث وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : { نَغْفر } بالنون مبنياً للفاعل و { خطيئاتِكم } بصيغة جمع المؤنث السالم أيضاً وقرأه أبو عمرو { نغفر } بالنون و { خطاياكم } بصيغة جمع التكسير ، مثل آية البقرة ، وقرأ ابن عامر : { تُغفر } بالفوقية وخطيئتكم بالإفراد .
والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه : تفنن في حكاية القصة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فغير الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول، فقالوا: وقد قيل لهم قولوا هذه "حطة": حنطة في شعيرة وقولهم ذلك كذلك هو غير القول الذي قيل لهم قولوه. يقول الله تعالى: "فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزا مِنَ السّماءِ": بعثنا عليهم عذابا أهلكناهم بما كانوا يغيّرون ما يُؤمرون به، فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله ويقولون غير الذي أمرهم الله بقيله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أكرم الله عز وجل هذه الأمة كرامات من الطاعة لرسولها الخضوع له والتعظيم له حتى لم يخطر ببال أحد الخلاف له بعد ما اتبعه وآمن به، وأكرمهم أيضا من الفهم والحكمة والفقه حتى ذكر كأنهم من الفقه أنبياء، وقوم موسى عليه السلام وغيره من الأمم لم يكونوا مثل ذلك. ألا ترى أن قوم موسى قد خالفوه في أشياء أمرهم موسى بها؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
التبديل: تغيير الشيء برفعه إلى بدل، فقال الحسن: قالوا حنطة بدل حطة. وقال قوم: قالوا قولا ينافي الاستغفار ويخالف التوبة، وقالوا ما يدل على الإصرار. وأخبر تعالى أنه أرسل عليهم عند ذلك رجزا وهو العذاب والعقوبة جزاء بما كانوا يفعلونه من معاصي الله تعالى ويظلمون بها أنفسهم. وأصل الرجز الميل عن الحق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جاء في التفسير أنهم زادوا حرفاً في الكلمة التي قيلت لهم فقالوا: حنطة بدل "حِطَّة "فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفاً أن الزيادةَ في الدين، والابتداعَ في الشرع عظيمُ الخَطَرَ، ومجاوزةُ حدِّ الأمر شديدُ الضرر. ويقال إذا كان تغييرُ كلمةٍ هي عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب -فما الظنُّ بتغيير ما هو خبرٌ عن صفات المعبود؟ ويقال إنَّ القولَ أَنْقَصُ من العمل بكلِّ وجهٍ- فإذا كان التغيير في القول يُوجِبُ كلَّ هذا.. فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وبدل معناه: غيّر اللفظ دون أن يذهب بجميعه، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر، والإشارة بالقول إلى قول بني إسرائيل حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولا ثقة لنا بشيء مما روي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعية، كما قاله الأستاذ الإمام هنالك. وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما (قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطّة} [البقرة: 58] فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حطة، حبة في شعرة) وفي رواية شعيرة. رواه البخاري في تفسير السورتين من طريق همام بن منبه أخي وهب وهما صاحب الغرائب في الإسرائيليات. ولم يصرح أبو هريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ رحمه الله تعالى على مثل هذا من الإسرائيليات وإن صح سنده ولكن قلما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والعبرة من هذا القصص أن نعلم أن الله يعاقب الأمم على ذنوبها في الدنيا قبل أن يعذبها في الآخرة، وأن نبتعد بقدر الطاقة عن الظلم والفسق، فقد عاقب الله بني إسرائيل بظلمهم ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من فضائل ومزايا ككثرة الأنبياء فيهم وتفضيلهم على العالمين كما تقدم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ أي: يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا كان ظلم فريق منهم -أي كفرهم- ظلماً لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله.. ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة. لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه. فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله، وتحقيق النذر، ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقع في هذه الآية {فبدل الذين ظلموا منهم} ولم يقع لفظ {منهم} في سورة البقرة، ووجه زيادتها هنا التصريحُ بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم، وأجمل ذلك في سورة البقرة لأن آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم، لأن تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها.
وقدم في سورة البقرة (58) قوله: {وادخلوا الباب سجداً} على قوله: {وقولوا حطة} [البقرة: 58] وعُكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن، فإن كلا القولين واقع قُدّم أو أُخّر.
وذكر في البقرة (58): {وكلوا منها حيث شئتم رَغَداً} ولم يذكر وصف رغداً هنا، وإنما حكي في سورة البقرة، لأن زيادة المنة أدخل في تقوية التوبيخ.
وجملة {سنزيد المحسنين} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله: {تُغفرْ لكم} في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائِل يقول: وهل الغفران هو قصارىَ جزائِهم؟ فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان، أي على الامتثال.
وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة (58) ذكرت جملة {وسنزيد المحسنين} معطوفة بالواو على تقدير: قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين، فالواو هنالك لحكاية الأقوال، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب {تُغفر} بمثناة فوقية مبنياً للمجهول، و {خطيئاتُكم} بصيغة جمع السلامة للمؤنث وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: {نَغْفر} بالنون مبنياً للفاعل و {خطيئاتِكم} بصيغة جمع المؤنث السالم أيضاً وقرأه أبو عمرو {نغفر} بالنون و {خطاياكم} بصيغة جمع التكسير، مثل آية البقرة، وقرأ ابن عامر: {تُغفر} بالفوقية وخطيئتكم بالإفراد.
والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه: تفنن في حكاية القصة.