وقوله - سبحانه - : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } توبيخ آخر لهم على جهلهم وانطماس بصائرهم .
والمراد بالسر هنا : حديثهم مع أنفسهم ، والمراد بنجواهم : ما تكلم به بعضهم مع بعض دون أن يطلعوا عليه أحدا غيرهم .
أى : بل أيظن هؤلاء الجاهلون أننا لا نعلم ما يتحدثون به مع أنفسهم ، وما يتحدثون به مع غيرهم فى خفية واستتار .
وقوله - سبحانه - : { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أى : إذا كانوا يظنون ذلك فقد خابوا وخسروا ، فإننا نعلم سرهم ونجواهم . ورسلنا الذين يحفظون عليهم أعمالهم ، ملازمون لهم ، ويسجلون عليهم كل صغيرة وكبيرة .
وقوله : أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ يقول : أم يظنّ هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم ، وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم ، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا .
وقوله : بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ يقول تعالى ذكره : بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم ، وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم ، وحفظتنا لديهم ، يعني عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق ، وتكلموا به من كلامهم .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في نفر ثلاثة تدارأُوا في سماع الله تبارك وتعالى كلام عباده . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشيّ ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا عاصم بن محمد العمريّ ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها ، قرشيان وثقفيّ ، أو ثقفيان وقرشيّ ، فقال واحد من الثلاثة : أترون الله يسمع كلامنا ؟ فقال الأوّل : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، قال الثاني : إن كان يسمع إذا أعلنتم ، فإنه يسمع إذا أسررتم ، قال : فنزلت أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ ، بَلى وَرسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال : الحفظَة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد . عن قتادة بلى وَرُسُلنا لَدَيهِمْ يَكْتُبُونَ : أي عندهم .
وقوله تعالى : { أم يحسبون } الآية ، قال محمد بن كعب القرظي : نزلت لأن كثيراً من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السر ، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود يقولون عند الكعبة : أترى الله يسمعنا ؟ فقال أحدهم : يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا الحديث ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع ، أي يدرك السر والنجوى ، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك ، وتعد للجزاء يوم القيامة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ" يقول: أم يظنّ هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم، وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا.
وقوله: "بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ "يقول تعالى ذكره: بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم، وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم، وحفظتنا لديهم، يعني عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق، وتكلموا به من كلامهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي بل يحسبون على ما ذكرنا أن حرف الاستفهام منه يخرّج على الإيجاب؛ كأنه قال: بل يحسبون، ألا ترى أنه قال: {بلى ورُسلنا لديهم يكتبون}؟
{بلى ورسلنا لديهم يكتبون} هذا وعيد وتنبيه منه لهم؛ يُخبر أن رسله يكتبون ما يُسرّون ويُخفون من المنكر وغيره ليكونوا أبدا على حذر ويقظة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما خوَّفهم بسماع المَلَك، وبكتابتهم أعمالهم عليهم بغفلتهم عن الله- سبحانه، ولو كان لهم خبرٌ عن الله لما خَوَّفهم بغير الله، ومَنْ عَلِمَ أنَّ أعمالَه تُكتَبُ عليه، وأنه يُطالَبُ بمقتضى ذلك -قَلَّ إلمامُه بما يخاف أن يُسألَ عنه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... لما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط بالخفي والجلي، نسبة كل منهما إليه على السواء، ذكرهما وقدم ما من شأنه أن يخفى وهو المكر المشار إليه بالإبرام، لأن السياق له فقال تعالى: {سرهم} أي كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يعصينا.
ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم؛ لأن السر ما يخفى وهو يعم ما في الضمائر وهي مما يعلم، حقق أن المراد به حقيقته بقوله: {ونجواهم} أي كلامهم المرتفع حتى كأنه على نجوة أي مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع، وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع، ولو لم يكن في قدرتنا نحن سماعه، فنكون فيه كالأصم بالنسبة إلى ما نسمعه نحن من الجهر ولا يسمعه هو لفقد قوة السمع فيه؛ لا لأنه مما من حقه ألا يسمع.
ولما كان إنكار عدم السماع معناه السماع، صرح به فقال: {بلى} أي نسمع الصنفين كليهما على حد سواء، {ورسلنا} وهم الحفظة من الملائكة على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا.
ولما كان حضور الملائكة معنا وكتابتهم لجميع أعمالنا على وجه لا نحس به نوع إحساس أمراً هو في غاية الغرابة، قال معبراً ب "لدى "التي يعبر بها عند اشتداد الغرابة {لديهم يكتبون} أي يجددون الكتابة كلما تجدد ما يقتضيها؛ لأن الكتابة أوقع في التهديد؛ لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة تجنب ما يخاف عاقبته.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَمْ يَحْسَبُونَ} بجهلهم وظلمهم {أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} الذي لم يتكلموا به، بل هو سر في قلوبهم {وَنَجْوَاهُمْ} أي: كلامهم الخفي الذي يتناجون به، أي: فلذلك أقدموا على المعاصي، وظنوا أنها لا تبعة لها ولا مجازاة على ما خفي منها.
فرد اللّه عليهم بقوله: {بَلَى} أي: إنا نعلم سرهم ونجواهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعطف {ورسلنا لديهم يكتبون} ليعلموا أن علم الله بما يُسِرُّون علم يترتب عليه أثرٌ فيهم: وهو مؤاخذتهم بما يسرّون؛ لأن كتابة الأعمال تؤذن بأنها ستحسب لهم يوم الجزاء. والكتابة يجوز أن تكون حقيقة، وأن تكون مجازاً، أو كناية عن الإحصاء والاحتفاظ.
والرسل: هم الحفظة من الملائكة لأنهم مرسلون لتقصّي أعمال النّاس ولذلك قال: {لديهم يكتبون}...