وجملة : أأنتم تخلقونه . . . هو المفعول الثانى .
والضمير المنصوب فى قوله : { تَخْلُقُونَهُ } يعود إلى الاسم الموصول فى قوله : { مَّا تُمْنُونَ } . أى : أخبرونى - أيها المشركون عما تصبونه وتقذفونه من المنى فى أرحام النساء ؟ أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقا فمضغا . . أم نحن الذين خلقنا ذلك ؟ لا شك أنكم تعرفون بأننا نحن الذين خلقنا كل ذلك ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلماذا عبدتم مع الله - تعالى - آلهة أخرى .
فالاستفهام للتقرير حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأن الله - تعالى - وحده خلق الإنسان فى جميع أطواره .
قال الجمل : و { أَم } فى هذه المواضع الأربعة منقطعة ، لوقوع جملة بعدها ، والمنقطعة تقدر ببل والهمزة الاستفهامية ، فيكون الكلام مشتملا على استفهامين ، الأول : أأنتم تخلقونه ؟ وجوابه : لا . والثانى : مأخوذ من { أَم } أى : بل أنحن الخالقون ؟ وجوابه نعم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أأنتم تخلقونه} بشرا {أم نحن الخالقون} له، بل نحن نخلقه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث: أفرأيتم أيها المُنكرون قُدرة الله على إحيائكم من بعد مماتكم النطف التي تمنون في أرحام نسائكم، أأنتم تخلقون تلك أم نحن الخالقون...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أي نحن خلقنا من المني المهين بشراً سوياً، فيكون ذلك خارجاً مخرج الامتنان.
الثاني: أننا خلقنا مما شاهدتموه من المني بشراً فنحن على خلق ما غاب من إعادتكم أقدر، فيكون ذلك خارجاً مخرج البرهان، لأنهم على الوجه الأول معترفون، وعلى الوجه الثاني منكرون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(أأنتم تخلقونه) وتنشئونه (أم نحن الخالقون) فهم لا يمكنهم ادعاء إضافة ذلك إلى نفوسهم لعجزهم عن ذلك، فلا بد من الاعتراف بأن الله هو الخالق لذلك، وإذا ثبت أنه قادر على خلق الولد من النطفة، وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته لأنه مثله، وليس بأبعد منه.
فأنتم خلقتم النطفة أم غيركم خلقها؟ والاستفهام يفيد زيادة تقرير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ءأنتم تخلقونه} أي توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الاستواء والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صور المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب {أم نحن} خاصة. ولما كان المقام لتقرير المنكرين ذكر الخبر المفهوم من السياق على وجه أفهم أن التقدير: أو أنتم الخالقون له أم نحن؟ فقال: بل نحن {الخالقون} أي الثابت لنا ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين. تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه. ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله. والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها؛ كما لا يعرفون كيف تقع. بله أن يشاركوا فيها!
وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان. وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها. ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى، إلى أن تصير خلقا، قصة أغرب من الخيال. قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلا، ويشهد وقوعها كل إنسان!
هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا. كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى؛ لأنها مكلفة أن تنشئ جانبا خاصا من المخلوق البشري! فهذه خلايا عظام. وهذه خلايا عضلات. وهذه خلايا جلد. وهذه خلايا أعصاب.. ثم.. هذه خلايا لعمل عين. وهذه خلايا لعمل لسان. وهذه خلايا لعمل إذن. وهذه خلايا لعمل غدد.. وهي أكثر تخصصا من المجموعات السابقة.. وكل منها تعرف مكان عملها، فلا تخطئ خلايا العين مثلا، فتطلع في البطن أو في القدم. مع أنها لو أخذت أخذا صناعيا فزرعت في البطن مثلا صنعت هنالك عينا! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذنا هناك!.. إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإنما ابتدئ الاستدلال بتقديم جملة {أأنتم تخلقونه} زيادة في إبطال شبهتهم إذ قاسوا الأحوال المغيبة على المشاهدة في قلوبهم لا نُعاد بعد أن كنا تراباً وعظاماً، وكان حقهم أن يقيسوا على تخلق الجنين من مبدأ ماء النطفة فيقولوا: لا تتخلق من النطفة الميتة أجسام حية كما قالوا: لا تصير العظام البالية ذواتاً حيّة، وإلا فإنهم لم يدّعوا قط أنهم خالقون، فكان قوله: {أأنتم تخلقونه} تمهيداً للاستدلال على أن الله هو خالق الأجنة بقدرته، وأن تلك القدرة لا تقصر عن الخلق الثاني عند البعث.
وفعل الرؤية في « أرأيتم» من باب (ظن) لأنه ليس رؤية عين. وقال الرضيّ: هو في مثله منقول من رأيت، بمعنى أبصرت أو عرفتَ، كأنه قيل: أأبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها، أخبرني عنها، فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء اه، أي لأن أصل فعل الرؤية من أفعال الجوارح لا من أفعال العقل.
و {ما تمنون} مفعول أول لفعل {أفرأيتم}. وفي تعدية فعل « أرأيتم» إليه إجمال إذ مورد فعل العلم على حال من أحوال ما تمنون، ففعل « رأيتم» غير وارد على نفس {ما تمنون}. فكانت جملة {أأنتم تخلقونه} بياناً لجملة {أفرأيتم ما تمنون}، وأعيد حرف الاستفهام ليطابِق البيانُ مبيَّنَه.
وبهذا الاستفهام صار فعل {أرأيتم} معلقاً عن العمل في مفعول ثان لوجود موجب التعليق وهو الاستفهام. قال الرضيّ: إذ صُدر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام فالأوْلى أن لا يعلق فعل القلب عن المفعول الأول نحو: علمْت زيداً أي من هو». اه.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في {أأنتم تخلقونه} لإِفادة التقويّ لأنهم لما نُزلوا منزلة من يزعم ذلك كما علمتَ صيغت جملة نفيه بصيغة دالة على زعمهم تمكن التصرف في تكوين النسل.
وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله تعالى معنى قصر الخلق على الله تعالى.
و {أم} متصلة معادلة الهمزة، وما بعدها معطوف لأن الغالب أن لا يذكر له خبر اكتفاء بدلالة خبر المعطوف عليه على الخبر المحذوف، وههنا أعيد الخبر في قوله: {أم نحن الخالقون} زيادة في تقرير إسناد الخلق إلى الله في المعنى وللإِيفاء بالفاصلة وامتداد نفس الوقف، ويجوز أن نجعل {أم} منقطعة بمعنى (بل) لأن الاستفهام ليس بحقيقي فليس من غرضه طلب تعيين الفاعل ويكون الكلام قد تم عند قوله: {تخلقونه}.