ثم أخذت السورة بعد ذلك في توبيخ المشركين ، وفى إبطال شركهم بأسلوب منطقى حكيم فقالت : { أَيُشْرِكُونَ . . . } .
قوله - تعالى - { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أى : أيشركون به - تعالى - وهو الخالق لهم ولكل شىء ، مالا يخلق شيئاً من الأشياء مهما يكن حقيراً ، بل إن هذه الأصنام التي تعبد من دون الله مخلوقة ومصنوعة ، فكيف يليق بسليم العقل أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر .
والاستفهام للإنكار والتجهيل . والمراد بما في قوله { مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } أصنامهم ، ورجع الضمير إليها مفرداً لرعاية لفظها ، كما أن إرجاع ضمير الجمع إليها في قوله { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } لرعاية معناها .
وجاء بمضير العقلاء في { يُخْلَقُونَ } مسايرة لهم في اعتقادهم أنها تضر وتنفع .
ولقد كان القرآن يحاور أصحاب تلك الوثنية الساذجة ؛ وتلك الجاهلية الصريحة ؛ ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري - أيّاً كانت طفولته - فيعقب على ذلك المثل الذي ضربه لهم ، وصور فيه مدارج الشرك في النفس :
( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ ) .
إن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد ! وآلهتهم المدعاة - كلها - لا تخلق شيئاً بل هي تخلق ! فكيف يشركون بها ؟ كيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم ؟
وإن الذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد . فالقوة والقهر والسلطان هي خصائص الألوهية وموجبات العبادة والعبودية . . وآلهتهم المدعاة - كلها - لا قوة لها ولا سلطان ؛ فهم لا يستطيعون نصرهم ، ولا نصر أنفسهم ! فكيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم ؟
ومع أن برهان الخلق والقدرة هذا كان يوجه إلى أصحاب تلك الجاهلية الساذجة ، فهو ما يزال هو هو الذي يحاج به أصحاب الجاهلية الحاضرة ! إنهم يقيمون لهم أصناماً أخرى يعبدونها ويتبعون ما تأمر به ؛ ويجعلون لها شركاً في أنفسهم وأبنائهم وأموالهم . . فمن منها يخلق من السماوات والأرض شيئاً ؟ ومن منها يملك لهم أو لنفسه نصراً ؟
إن العقل البشري - لو خلي بينه وبين هذا الواقع - لا يقره ، ولا يرضاه ! ولكنها الشهوات والأهواء والتضليل والخداع . . هي التي تجعل البشرية بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن ترتد إلى هذه الجاهلية - في صورتها الجديدة - فتشرك ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون !
إن هذه البشرية لفي حاجة اليوم - كما كانت في حاجة بالأمس - إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى . في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام ؛ ومن يخرجها من الظلمات إلى النور ؛ ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية الجديدة ؛ بل من هذا السخف الجديد الذي تلج فيه ؛ كما أنقذها هذا الدين أول مرة !
إن صيغة التعبير القرآنية توحي بأنه كان يعني كذلك تقريعهم على اتخاذ آلهة من البشر :
( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ )
فهذه الواو والنون تشير إلى أن من بين هذه الآلهة على الأقل بشراً من " العقلاء " الذين يعبر عنهم بضمير " العاقل " ! . . وما علمنا أن العرب في وثنيتهم كانوا يشركون بآلهة من البشر - بمعنى أنهم يعتقدون بألوهيتهم أو يقدمون الشعائر التعبدية لهم - إنما هم كانوا يشركون بأمثال هؤلاء من ناحية أنهم يتلقون منهم الشرائع الاجتماعية والأحكام في النزاعات - أي الحاكمية الأرضية - وأن القرآن يعبر عن هذا بالشرك ، ويسوي بينه وبين شركهم الآخر بالأوثان والأصنام سواء . وهذا هو الاعتبار الإسلامي لهذا اللون من الشرك . فهو شرك كشرك الاعتقاد والشعائر لا فرق بينه وبينه ، كما اعتبر الذين يتقبلون الشرائع والأحكام من الأحبار والرهبان مشركين . مع أنهم لم يكونوا يعتقدون بألوهيتهم ولم يكونوا يقدمون لهم الشعائر كذلك . . فكله شرك وخروج عن التوحيد الذي يقوم عليه دين الله ؛ والذي تعبر عنه شهادة أن لا إله إلا الله . . مما يتفق تماماً مع ما قررناه من شرك الجاهلية الحديثة !
هذه الآيات الثلاث كلام « معترض بين الكلامين المسوقين لتوبيخ المشركين وإقامة الحجة عليهم ، مُخاطب بها النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون ، للتعجيب من عقول المشركين ، وفيه تعريض بالرد عليهم لأنه يبلُغ مسامعهم .
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإنكار .
وصيغة المضارع في يشركون دالة على تجدد هذا الإشراك منهم . ونفي المضارع في قوله : { ما لا يَخلق } للدلالة على تجدد نفي الخالقية عنهم .
وأصل معنى التجدد ، الذي يدل عليه المسند الفِعلي ، هو حدوث معنى المسند للمسند إليه ، وأنه ليس مجرد ثبوت وتقرر ، فيعلم منه : أنهم لا يخلُقون في الاستقبال ، وأنهم ما خَلقوا شيئاً في الماضي ، لأنه لو كان الخلق صفة ثابتة لهم لكان متقرراً في الماضي والحال والاستقبال .
وضمير الغيبة في { وهم يخلقون } يجوز عندي : أن يكون عائداً إلى ما عاد إليه ضمير { يشركون } [ الأعراف : 190 ] ، أي : والمشركون يُخلقون ، ومعنى الحال زيادة تفظيع التعجيب من حالهم لإشراكهم بالله أصنافاً لا تخلق شيئاً في حال أن المشركين يُخلقون يوماً فيوماً ، أي يتجدد خلقهم ، والمشركون يشاهدون الأصنامَ جاثمة في بيوتها ومواضعها لا تصنع شيئاً فصيغة المضارع دالة على الاستمرار بقرينة المقام .
ودلالة المضارع على الاستمرار والتكرر دلالة ناشئة عن معنى التجدد الذي في أصل المسند الفعلي ، وهي دلالة من مستتبعات التركيب بحسب القرائن المعيّنة لها ولا توصف بحقيقة ولا مجاز لذلك ، ومعنى تجدد مخلوقيتهم : هو أن الضمير صادق بأمة وجماعة ، فالمخلوقية لا تفارقهم لأنها تتجدد آنا فآنا بازدياد المواليد ، وتغير أحوال المواجيد ، كما قال تعالى { خلقاً من بعد خَلْقٍ } [ الزمر : 6 ] فتكون جملة : { وهم يخلقون } حالاً من ضمير { أيشركون } .
والمفسرون أعادوا ضمير و { هم يخلقون } على مَا لاَ يَخْلُق ، أي الأصنام ، ولم يبينوا معنى كون الأصنامَ مخلوقة وهي صُورٌ نحتها الناس ، وليست صُورها مخلوقة لله ، فيتعين أن المراد أن مادتها مخلوقة وهي الحجارة .
وجعلوا إجراء ضمائر العقلاء في قوله { وهم } وقوله { يُخلقون } وما بعده على الأصنام وهي جمادات لأنهم نُزلوا منزلة العقلاء ، بناء على اعتقاد المحجوجين فيهم ، ولا يظهر على لهذا التقدير وجهُ الاتيان بفعل يخلقون بصيغة المضارع لأن هذا الخلق غير متجدد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.