قوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } ، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر ! أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا ولم يبصروا في الدنيا . قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله تعالى لعيسى : { أأنت قلت للناس } الآية [ مريم – 116 ] . { يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } ، أي : في خطأ بين .
وقوله - سبحانه - { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } تهكم بهم ، وتوعد لهم بالعذاب الشديد ، فهو تأكيد لما قبله .
و { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } صيغتا تعجب ، لفظهما لفظ الأمر ، ومعناهما التعجيب ، أى حمل المخاطب على التعجيب ، وفاعلهما الضمير المجرور بالباء ، وهى زائدة فيهما لزوما ، والمعنى : ما أسمع هؤلاء الكافرين وما أبصرهم فى ذلك اليوم ، لما يخلع قلوبهم ، ويسود وجوههم ، مع أنهم كانوا فى الدنيا صماً وعمياناً عن الحق الذ جاءتهم به رسلهم .
فالمراد باليوم فى قوله { لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هو ما كانوا فيه فى الدنيا من ضلال وغفلة عن الحق .
أى : أن هؤلاء القوم ما أعجب حالهم إنهم لا يسمعون ولا يبصرون فى الدنيا حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة . وهم أسمع ما يكون السمع وأبصر ما يكون البصر ، عندما يكون السمع والبصر وسيلة للخزى والعذاب فى الآخرة .
ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا . وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس :
( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) . .
فما أعجب حالهم ! . . لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة . وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم !
وقوله { أسمع بهم وأبصر } ، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع بهم من العذاب ، فإن إعراضهم حينئذ يزول ويقبلون على الحقيقة حين لا ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم ، ثم قال : لكنهم اليوم في الدنيا { في ضلال } وهو جهل المسلك ، و «المبين » في نفسه وإن لم يبين لهم ، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال { أسمع بهم وأبصر } ، هي بمعنى الأمر لمحمد عليه السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذ أتوا محشورين مغلوبين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن حال الكافرين به، الجاعلين له أندادا، والزاعمين أن له ولدا يوم ورودهم عليه في الآخرة: لئن كانوا في الدنيا عميا عن إبصار الحقّ، والنظر إلى حجج الله التي تدلّ على وحدانيته، صما عن سماع آي كتابه، وما دعتهم إليه رسل الله فيها من الإقرار بتوحيده، وما بعث به أنبياءه، فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة، وأبصرهم يومئذٍ حين لا ينفعهم الإبصار والسماع...
"لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ "يقول تعالى ذكره: لكن الكافرون الذين أضافوا إليه ما ليس من صفته، وافتروا عليه الكذب اليوم في الدنيا، في ضلال مبين يقول: في ذهاب عن سبيل الحقّ، وأخذ على غير استقامة، "مبين" أنه جائر عن طريق الرشد والهدى، لمن تأمله وفكّر فيه، فهُدِي لرشده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} قال الحسن: يكونون سُمَعاء (وبُصراء في الآخرة، ليسوا) على ما كانوا في الدنيا عُميا بُكما صُما.
وقال بعضهم: ما أسمعهم، وما أبصرهم يوم يأتوننا.
وقال بعضهم: لا يصح هذا، لأن هذا ليس على وجه الهزء والتعجب، ولكن تأويله يسمعون ما قالوا، ويُبصرون ما عملوا. وقال بعضهم: {أسمع بهم وأبصر} أي أسمع بحديثهم وأعلم بهم وأبصر، كيف نصنع بهم يوم يأتوننا؟ والله أعلم.
وقوله تعالى: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} أي في حسرة بينة أو في هلاك بين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمعنى أنهم حلوا في ذلك محل من يتعجب منه، وفيه تهديد ووعيد أن سيسمعون ما يصدع قلوبهم ويردون ما يهيلهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تصير معارفهم ضروريةً، وأحوالُهم كلُّها معكوسةَ، الحُجَّة تتأكَّد عليهم، والحاجةُ لا تُسْمَعُ منهم، والرحمةُ لا تتعلَّق بهم، فلا تُرْحَم شكاتُهم، ولا يُسْمَعُ نِداؤُهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعمياً في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر أعني "الظالمين "موقع الضمير: إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{في ضلال} وهو جهل المسلك، و «المبين» في نفسه وإن لم يبين لهم،...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{فِي ضلال} عن الحق {مُّبِينٌ} ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلها معبوداً مع ظهور آثار الحدث فيه إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أسمع بهم وأبصر} أي ما أشد سمعهم وما أنفذ بصرهم! {يوم يأتوننا} سامعين لكل أهواله، مبصرين لسائر أحواله، فيطلعون بذلك على جميع ما أدى عمله في الدنيا إلى ضرهم في ذلك اليوم، وجميع ما كان ينفعهم لو عملوه، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم، ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ونحوه ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك، بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم، فيكونون بسلوك ذلك -وهم يعلمون ضرره عمياً وبكماً وصمّاً، لأنهم لا ينتفعون بمداركهم كما كانوا في الدنيا كذلك، لكنهم- هكذا كان الأصل، وإنما أظهر فقال: {لكن الظالمون} تنبيهاً على الوصف الذي أحلهم ذلك المحل {اليوم في ضلال مبين} لا يسمعون ولا يبصرون.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{في ضلال مُّبِينٍ} لا تُدرك غايتُه حيث أغفلوا الاستماعَ والنظرَ بالكلية، ووضعُ الظالمين موضعَ الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وتأمل كيف قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ْ} بعد قوله {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ْ} ولم يقل "فويل لهم "ليعود الضمير إلى الأحزاب، لأن من الأحزاب المختلفين، طائفة أصابت الصواب، ووافقت الحق، فقالت في عيسى: "إنه عبد الله ورسوله" فآمنوا به، واتبعوه، فهؤلاء مؤمنون، غير داخلين في هذا الوعيد، فلهذا خص الله بالوعيد الكافرين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا. وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين).. فما أعجب حالهم!.. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أسمع بهم وأبصر} صيغتا تعجب، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين، أو هو مستعمل في التعجيب، والمعنيان متقاربان، وهو مستعمل كناية أيضاً عن تهديدهم، فتعيّن أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغاً يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه. والمعنى؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم، أي ما أقدرهم على السمع والبَصَر بما يكرهونه. وقريب هو من معنى قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} [البقرة: 175]. وجُوز أن يكون {أسمع بهم وأبصر} غير مستعمل في التعجب بل صادفَ أن جاء على صورة فعل التعجب، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعيّن بأن يَسمع ويُبصر بسببهم، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يُسمع وأن يُبصر. وهذا كناية عن التهديد. وضمير الغائبين عائد إلى (الذين كفروا)، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام. والاستدراك الذي أفاده قوله {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله {يوم يأتوننا} من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال. فأفيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه. وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله {اليوم في ضلال مبين}. والتعبير عنهم ب {الظالمون} إظهار في مقام الإضمار. ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن كانوا يعرضون عن ذكر البعث والنشور، ولا يبصرون العواقب، ولا يتدبرون ما وراء، وإنهم في هذا اليوم المشهود يكونون أحدّ الناس سمعا وبصرا وإدراكا لما أنكروا من قبل، ولذا قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمين اليوم في ضلال مبين 37}. والمعنى أن حالهم في قوة سمعهم للحق وقوة بصرهم وإدراكهم للحق حال المتعجب منه المستغرب وليس ذلك بعجب على الله ولا غريب عليه سبحانه، لأنه عليم بكل شيء، فليس شيء بغريب على علمه سبحانه، إنما الغرابة علينا، وهذا غير حالهم اليوم لأنهم اليوم في ضلال مبين واضح، أي حالهم يوم الشهود، فقد زالت الغفلة وزال الضلال، وزالت الأوهام التي أضلتهم، ولذا قال تعالى: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}، {اليوم} المراد به الحياة الدنيا، فهم في ضلال في الحياة الدنيا بسبب الأهواء وتحكمها في مداركهم وأحاسيسهم، والأوهام وسيطرتها على عقولهم، ونقول: وضع الظاهر موضع الضمير، لإثبات أن السبب في هذا الضلال هو ظلمهم لأنفسهم بعدم الإدراك الصحيح، وظلم العباد للنبيين، وفتنة المؤمنين، الاستدراك في قوله تعالى: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}، لبيان التفاوت بين حدة سمعهم وبصرهم التي توجب العجب، وحالهم في هذا اليوم في الدنيا التي كانوا فيها عمين عن الحق، ووقوعهم في الضلال المبين البين الواضح.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} فقد كانوا في الحياة الدنيا لا يسمعون ولا يبصرون، لأنهم أغلقوا منافذ سمعهم وبصرهم عن العلم النافع الذي يقودهم إلى الحق والهدى، ولكنهم الآن يسمعون كأفضل ما يكون السمع، ويبصرون كأفضل ما يكون البصر، {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} فيشاهدون الحقيقة الناصعة دون أن يستطيعوا الهرب منها أو مواجهتها، لأنها تفرض نفسها عليهم من كل جانب، بعيداً عن النوازع الذاتية، أو عن التصورات الخيالية التي تقودهم إلى الانحراف. لقد انتهت فرصة التراجع عن الضلال، لأن الدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل، فلا شيء ينفع بعد الآن، ولا مجال للانطلاق من جديد إلى الخط المستقيم، ولا للتخلُّص من مسؤولية الضلال ومن نتائجه العملية، وساحاته الجهنمية التي تحتوي الضالين جميعاً في عذاب شديد.
{لَكِنِ الظالمون الْيَوْمَ في ضَلالٍ مُّبِينٍ} وربما أُريد من الضلال العذاب تعبيراً عن الشيء بنتائجه، والله العالم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ من الواضح أن الحجب سترتفع في النشأة الآخرة، لأنّ آثار الحق هناك أوضح من آثاره في عالم الدنيا بمراتب ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن، وحتى عمي القلوب فإِنّهم سيعون الأمر ويعلمون الحق، إِلاّ أن هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئاً. وفسّر بعض المفسّرين كلمة (اليوم) في جملة (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) بيوم القيامة، أي إِن معنى الآية: إِنّهم سيصبحون ناظرين سامعين، إِلاَّ أنّ هذا النظر والسمع سوف لا ينفعهم في ذلك اليوم، وسيكونون في ضلال مبين. لكن يبدو أن التّفسير الأوّل أصح...