اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ يَوۡمَ يَأۡتُونَنَا لَٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (38)

قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } : هذا لفظ أمرٍ ، ومعناه : التعجُّب ، وأصحُّ الأعاريب فيه ، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ ، والباءُ زائدة ، وزيادتها لازمةٌ ؛ إصلاحاً للفظ ؛ لأنَّ " أفْعِلْ " أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً ، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ ؛ كقوله : [ الطويل ]

تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا *** فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا{[21620]}

أي : بأنْ تسربل ، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ ، ولا ضمير في " أفْعِلْ " ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ ، والمراد به المتكلِّمُ ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك ، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ .

ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً ، والتقدير : أحسن ، يا حُسْنُ ، بزيدٍ ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً ، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية ، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم ، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو .

فصل في التعجب

قالوا : التعجُّب استعظام الشيء ، مع الجهل ؛ بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب ، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله .

قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ : { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } [ الصافات : 12 ] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء ، إنما يعجبُ من لا يعلم ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ -رضي الله عنه- فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمه ، وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } .

ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ ، لو صدر مثله عن الخلق ، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا ، فللتعجُّب صيغتان :

إحداهما : ما أفعلهُ ، والثانيةُ أفعل به .

كقوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويُّون ذكروا له تأويلان :

الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ ، أصل " أكرم زيدٌ " أيك صار ذا كرمٍ ، ك " أغَدَّ البَعِيرُ " أي : صار ذا غُدَّة ، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر ، ومعناه الخبرُ ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر ، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر ؛ كقوله سبحانه وتعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] ، { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] ، { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] أي : يمُدُّ له الرحمنُ ، والباء زائدةٌ .

الثاني : أن يقال : إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً ، أي : بأن يصفه بالكرمِ ، والباء زائدةٌ ؛ كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .

قال ابن الخطيبِ{[21621]} : وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً ؛ وهو أن قولك : أكرم بزيدٍ ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً ؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً ، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ لك غرضك .

فصل في معنى الآية

المشهورُ أنَّ معنى قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } " ما أسمعهُمْ ، وما أبْصَرهُم " والتعجُّب على الله تعالى محالٌ ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا .

وقيل : معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ ، ويصدعُ قلوبهم .

وقال القاضي{[21622]} : ويحتملُ أن يكون المرادُ : أسمع هؤلاء وأبصرهم ، أي : عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا ؛ ليعتبروا وينزجروا .

وقال الجُبَّائيُّ : ويجوز : أسمع النَّاسَ بهؤلاء ، وأبصرهم بهؤلاء ، ليعرفُوا أمرهُم ، وسُوء عاقبتهم ، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم .

قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ ل " أبْصِرْ " . [ ولا يجوز أن يكون معمولاً ل " أسْمِعْ " لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب ، ومعموله ؛ ولذلك كان الصحيح أنه ] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني ، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال ، وقيل : بل هو أمرٌ حقيقة ، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى : أسمعِ النَّاس ، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب ؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية .

قوله تعالى : { لكن الظالمون اليوم } .

نصب " اليَوْمَ " بما تضمَّنه الجار من قوله { في ضلالٍ مُبينٍ } أي : لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم ، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ ، والجارُّ لغوٌ ؛ لئلا يخبر عن الجثة [ بالزَّمان ؛ بخلاف ] قولك : القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ ؛ فإنه يجوز الاعتباران .

فصل في معنى الآية

المعنى : { لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : خطأ بيِّنٍ ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ .

وقيل : لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة ؛ بخلاف المؤمنين .

وقوله { لكن الظالمون } من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر .


[21620]:البيت لأوس بن حجر، ديوانه 84، المقرب 1/77، الهمع 2/90، الدرر 2/120، التهذيب واللسان "عزل"، الدر المصون 4/507.
[21621]:ينظر: الفخر الرازي 21/189.
[21622]:ينظر: المصدر السابق.