قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } : هذا لفظ أمرٍ ، ومعناه : التعجُّب ، وأصحُّ الأعاريب فيه ، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ ، والباءُ زائدة ، وزيادتها لازمةٌ ؛ إصلاحاً للفظ ؛ لأنَّ " أفْعِلْ " أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً ، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ ؛ كقوله : [ الطويل ]
تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا *** فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا{[21620]}
أي : بأنْ تسربل ، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ ، ولا ضمير في " أفْعِلْ " ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ ، والمراد به المتكلِّمُ ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك ، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ .
ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً ، والتقدير : أحسن ، يا حُسْنُ ، بزيدٍ ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً ، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية ، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم ، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو .
قالوا : التعجُّب استعظام الشيء ، مع الجهل ؛ بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب ، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله .
قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ : { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } [ الصافات : 12 ] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء ، إنما يعجبُ من لا يعلم ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ -رضي الله عنه- فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمه ، وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } .
ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ ، لو صدر مثله عن الخلق ، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا ، فللتعجُّب صيغتان :
إحداهما : ما أفعلهُ ، والثانيةُ أفعل به .
كقوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويُّون ذكروا له تأويلان :
الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ ، أصل " أكرم زيدٌ " أيك صار ذا كرمٍ ، ك " أغَدَّ البَعِيرُ " أي : صار ذا غُدَّة ، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر ، ومعناه الخبرُ ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر ، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر ؛ كقوله سبحانه وتعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] ، { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] ، { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] أي : يمُدُّ له الرحمنُ ، والباء زائدةٌ .
الثاني : أن يقال : إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً ، أي : بأن يصفه بالكرمِ ، والباء زائدةٌ ؛ كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
قال ابن الخطيبِ{[21621]} : وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً ؛ وهو أن قولك : أكرم بزيدٍ ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً ؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً ، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ لك غرضك .
المشهورُ أنَّ معنى قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } " ما أسمعهُمْ ، وما أبْصَرهُم " والتعجُّب على الله تعالى محالٌ ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا .
وقيل : معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ ، ويصدعُ قلوبهم .
وقال القاضي{[21622]} : ويحتملُ أن يكون المرادُ : أسمع هؤلاء وأبصرهم ، أي : عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا ؛ ليعتبروا وينزجروا .
وقال الجُبَّائيُّ : ويجوز : أسمع النَّاسَ بهؤلاء ، وأبصرهم بهؤلاء ، ليعرفُوا أمرهُم ، وسُوء عاقبتهم ، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ ل " أبْصِرْ " . [ ولا يجوز أن يكون معمولاً ل " أسْمِعْ " لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب ، ومعموله ؛ ولذلك كان الصحيح أنه ] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني ، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال ، وقيل : بل هو أمرٌ حقيقة ، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى : أسمعِ النَّاس ، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب ؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية .
قوله تعالى : { لكن الظالمون اليوم } .
نصب " اليَوْمَ " بما تضمَّنه الجار من قوله { في ضلالٍ مُبينٍ } أي : لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم ، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ ، والجارُّ لغوٌ ؛ لئلا يخبر عن الجثة [ بالزَّمان ؛ بخلاف ] قولك : القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ ؛ فإنه يجوز الاعتباران .
المعنى : { لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : خطأ بيِّنٍ ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ .
وقيل : لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة ؛ بخلاف المؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.