قوله تعالى : { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف . وقال مجاهد : بقية الله : أي طاعة الله ، خير لكم إن كنتم مؤمنين بأن ما عندكم من رزق الله وعطائه .
قوله تعالى : { وما أنا عليكم بحفيظ } ، بوكيل . وقيل : إنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم .
ثم أرشدهم إلى أن ما عند الله خير وأبقى مما يجمعونه عن الطريق الحرام فقال : { بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } .
ولفظ { بقية } اسم مصدر من الفعل : بقى ، ضد : فنى . وإضافتها إلى الله - تعالى - إضافة تشريف وتيمن .
أى : ما يبقيه الله لكم من رزق حلال ، ومن حال صالح ، ومن ذكر حسن ، ومن أمن وبركة فى حياتكم . . . بسبب التزامكم بالقسط فى معاملاتكم ، هو خير لكم من المال الكثير الذى تجمعونه عن طريق بخس الناس أشياءهم .
وجملة " إن كنتم مؤمنين " معترضة لبيان أن هذه الخيرية لا تتم إلا مع الإِيمان .
أى : ما يبقيه الله لكم من الحلال . . . هو خير لكم ، إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، أما إذا لم تكونوا كذلك فلن تكون بقية الله خيرا لكم ، لأنها لا تكون إلا للمؤمنين ، فاستجيبوا لنصيحتى لتسعدوا فى دنياكم وآخرتكم .
وجملة " وما أنا عليكم بحفيظ " تحذير لهم من مخالفته بعد أن أدى ما عليه من بلاغ .
أى : وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ لكم أعمالكم وأحاسبكم عليها ، وأجازيكم بها الجزاء الذى تستحقونه ، وإنما أنا ناصح ومبلغ ما أمرنى ربى بتبليغه ، وهو وحده - سبحانه - الذى سيتولى مجازاتكم .
وإلى هنا نجد شعيباً - عليه السلام - قد أرشد قومه إلى ما يصلحهم فى عقائدهم ، وفى معاملاتهم ، وفى صلاتهم بعضهم ببعض ، وفى سلوكهم الشخصى ، بأسلوب حكيم جامع لكل ما يسعد ويهدى للتى هى أقوم .
( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) . .
فما عند الله أبقى وأفضل . . وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده - أي الدينونة له بلا شريك -
فهو يذكرهم بها هنا ، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم ، واتبعوا نصيحته في المعاملات . وهي فرع عن ذلك الإيمان .
( بقية الله خير لكم . . إن كنتم مؤمنين ) . .
ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه ، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئا ، كما أنه ليس موكلا بحفظهم من الشر والعذاب . وليس موكلا كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولا عنهم إن هم ضلوا ، إنما عليه البلاغ وقد أداه :
ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر ، وبثقل التبعة ، ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ .
{ بقيّتُ الله } ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم . { خير لكم } مما تجمعون بالتطفيف . { إن كنتم مؤمنين } بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان . أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم . وقيل البقية الطاعة كقوله : { والباقيات الصالحات } وقرئ " تقية " الله بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي .
{ وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظكم عن القبائح ، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت ، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم .
وقوله : { بقيت الله } قال ابن عباس معناه الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن حير لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد : معناه طاعة الله ، وقال ابن عباس - أيضاً - معناه رزق الله ، وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية ، وإنما المعنى عندي - إبقاء الله عليكم إن أطعتم . وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بتخفيف الياء وهي لغة .
وقوله : { إن كنتم مؤمنين } شرط في أن تكون البقية خيراً لهم ، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال ، وجواب هذا الشرط ، متقدم ، و «الحفيظ » المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب ، والمعنى : إنما أنا مبلغ والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال .
لفظ { بقيت } كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي .
فأمّا كونه دنيوياً فلأن الكسب الحلال ناشىء عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فَبتَجَنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قَرَنَ الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال . وأيضاً فلأنّ نوالَها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها . قال ابن عطاء الله : « من لم يشكر النعَم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها » .
وأمّا كونه أخرويا فَلأنّ نهيَ الله عنها مقارنٌ للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى : { والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ مردّاً } [ مريم : 76 ] .
على أنّ لفظ ( البقية ) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير والبركة لأنّه لا يبقى إلاّ ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ، ولذلك أطلقت ( البقية ) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى : { فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون } [ البقرة : 248 ] ، وقوله : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } [ هود : 116 ] وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي :
إن تذنبوا ثم تأتيني بَقيتكم *** فما عَليّ بِذَنْب مِنكمُ فَوْت
قال المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خِياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل ، أي من أفاضلهم .
وفي كلمة ( البقية ) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم ، والعرب يقولون عند طلب الكفّ عن القتال : ابقوا علينا ، ويَقولون « البقيةَ البقيةَ » بالنصب على الإغراء ، قال الأعشى :
قالوا البقيةَ والهنديُّ يحصدهم *** ولا بقيةَ إلا الثار وانكشفوا
أُذَكّرُ بالبُقْيَا على مَنْ أصابني *** وَبُقْيَايَ أنّي جاهد غير مؤتلي
والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيّئة العاقبة ، فيكون تعريضاً بوعيد الاستئصال . وكل هذه المعاني صالحة هنا . ولعلّ كلام شعيب عليه السّلام قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة .
وإضافة ( بقية ) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقاً إضافةُ تشريف وتيمّن . وهي إضافة على معنى اللاّم لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به .
ومعنى { إن كنتم مؤمنين } إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلاّ إذا صَدقوا بأن ذلك من عند الله ، فهنالك تكون بقية الله خيراً لهم ، فموقع الشرط هو كون البقية خيراً لهم ، أي لا تكون البقية خيراً إلاّ للمؤمنين .
وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريباً لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالاً بإيمانهم لئَلاّ يفجأهم العذاب فيفوت التدارك .
وجملة { وما أنا عليكم بحفيظ } في موضع الحال من ضمير { اعبُدوا } ونظائره ، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله .
والحفيظ : المجبر ، كقوله : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] وتقدم عند قوله تعالى : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } في سورة [ الأنعام : 107 ] . والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر . وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بقيت الله}، يعني: ثواب الله في الآخرة، {خير لكم إن كنتم مؤمنين}، يعني: لو كنتم مؤمنين بالله عز وجل، لكان ثوابه خيرا لكم من نقصان الكيل والميزان، كقوله: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل:96]. يعني: ثوابه باق، {وما أنا عليكم}، يعني: على أعمالكم، {بحفيظ} يعني برقيب، والله الحافظ لأعمالكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {بَقِيّة اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}: ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحله لكم، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان.
{إنْ كُنْتمْ مُؤْمِنِينَ} يقول: إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وحلاله وحرامه. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: طاعة الله خير لكم... وقال آخرون: معنى ذلك: حظّكم من ربكم خير لكم...
وقال آخرون: معناه: رزق الله خير لكم... وإنما اخترت في تأويل ذلك القول الذي اخترته، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة أولى، مع أن قوله: {بَقِيّةُ}، إنما هي مصدر من قول القائل: بَقيت بَقِيّة من كذا، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسكم إياهم في الكيل والوزن.
{وَما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}، يقول: وما أنا عليكم أيها الناس برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم، وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربي فقد أبلغتكموها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...قيل "بقية الله": طاعة الله -في قول الحسن ومجاهد- لأنه يبقي ثوابها أبدا، وكانت هذه البقية خيرا من تعجيلهم النفع بالبخس في المكيال والميزان، وإنما شرط أنه خير بالإيمان في قوله:"ان كنتم مؤمنين "وهو خير على كل حال، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحته...
"وما أنا عليكم بحفيظ" معناه ههنا أن هذه النعمة التي أنعمها الله عليكم لست أقدر على حفظها عليكم وإنما يحفظها الله عليكم. إذا اطعتموه، فإن عصيتموه أزالها عنكم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولما أن قال لهم شعيب: {بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} يعني القليل من الحلالِ أجدى من الكثير المُعْقِب للوَبالِ لم يقابلوا نصيحَته لهم إلا بالعِناد والتمادي فيما هو دائمٌ من الجحد والكنود...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَقِيَّتُ الله} ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت: بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ قلت لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر. وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه.وإضافة البقية إلى الله من حيث إنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً، وإذا أريد به الطاعة فكما تقول: طاعة الله.
المعنى: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف. وقال الحسن: بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل، لأن ثواب الطاعة يبقى أبدا. وقال قتادة: حظكم من ربكم خير لكم، وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا، وإما ثواب الله، وأما كونه تعالى راضيا عنه والكل خير من قدر التطفيف، أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنسانا بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق، وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه البتة فتضيق أبواب الرزق عليه، وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر، لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق، وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر، فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير. ثم قال: {إن كنتم مؤمنين} وإنما شرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل.
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط، فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمنا.
ثم قال تعالى: {وما أنا عليكم بحفيظ} وفيه وجهان:
الأول: أن يكون المعنى: إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير {وما أنا عليكم بحفيظ} أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح.
الثاني: أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال: {وما أنا عليكم بحفيظ} يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا: إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال: {بقيت الله} أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره {خير لكم} مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضاً بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلاناً -إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون: أراك تبقي هذا ببصرك- إذا كان ينظر إليه -قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة. ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى: فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير {وما أنا} وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال: {عليكم} وأغرق في النفي فقال: {بحفيظ} أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن كنتم مؤمنين} به حق الإيمان، فإن الإيمان هو الذي يطهر النفس من دناءة الطمع، ويحليها بفضيلة القناعة والكرم والسخاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين).. فما عند الله أبقى وأفضل.. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده -أي الدينونة له بلا شريك- فهو يذكرهم بها هنا، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات. وهي فرع عن ذلك الإيمان. (بقية الله خير لكم.. إن كنتم مؤمنين).. ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئا، كما أنه ليس موكلا بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلا كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولا عنهم إن هم ضلوا، إنما عليه البلاغ وقد أداه: (وما أنا عليكم بحفيظ).. ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، وبثقل التبعة، ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لفظ {بقيت} كلمة جامعة لمعان في كلام العرب، منها: الدوام، ومؤذنة بضده وهو الزوال، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل، وبقاؤه دنيوي وأخروي. فأمّا كونه دنيوياً فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فَبتَجَنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض، ومن أجل ذلك قَرَنَ الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام "فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال. وأيضاً فلأنّ نوالَها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها. قال ابن عطاء الله: « من لم يشكر النعَم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها». وأمّا كونه أخرويا فَلأنّ نهيَ الله عنها مقارنٌ للوعد بالجزاء على تركها، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى: {والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ مردّاً} [مريم: 76]. على أنّ لفظ (البقية) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب، وهو معنى الخير والبركة لأنّه لا يبقى إلاّ ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس، ولذلك أطلقت (البقية) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى: {فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون} [البقرة: 248]، وقوله: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} [هود: 116] وفي كلمة (البقية) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم، والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيّئة العاقبة، فيكون تعريضاً بوعيد الاستئصال. وكل هذه المعاني صالحة هنا. ولعلّ كلام شعيب عليه السّلام قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة.
وإضافة (بقية) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقاً إضافةُ تشريف وتيمّن. وهي إضافة على معنى اللاّم لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به. ومعنى {إن كنتم مؤمنين} إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلاّ إذا صَدقوا بأن ذلك من عند الله، فهنالك تكون بقية الله خيراً لهم، فموقع الشرط هو كون البقية خيراً لهم، أي لا تكون البقية خيراً إلاّ للمؤمنين. وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريباً لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالاً بإيمانهم لئَلاّ يفجأهم العذاب فيفوت التدارك. وجملة {وما أنا عليكم بحفيظ} في موضع الحال من ضمير {اعبُدوا} ونظائره، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله. والحفيظ: المجبر، كقوله: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ} [الشورى: 48] وتقدم عند قوله تعالى: {وما جعلناك عليهم حفيظاً} في سورة [الأنعام: 107]. والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر. وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال...
... {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين}: أي: إن كنتم مؤمنين بأن الله تعالى رقيب، وأنه سبحانه قيوم؛ فلا تأخذ حقا غير حقك؛ لأنك لن تستغل إلا نفسك؛ لأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك. وينهى الحق سبحانه الآية بقوله: {.. وما أنا عليكم بحفيظ}: أي: أن شعيبا عليه السلام قد أوضح لأهل مدين: أنا لن أقف على رأس كل مفسد لأمنعه من الإفساد؛ لأن كل إنسان عليه أن يكون رقيبا على نفسه مادام قد آمن بالله سبحانه، ومادام قد عرف أن الحق سبحانه قد قال: {بقية الله}: أي: أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة. وهذه هي فائدة الإيمان: ما أمر به وما ينهى عنه. وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي؛ لأن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته.. أما القانون الإلهي فهو محيط بأحوال الناس المعلنة والخافية...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} الظاهر أن المراد من هذا التعبير {بَقِيَّتُ اللَّهِ} هو ما يحصلون عليه من ربح يزيد على رأس المال، يعود إليهم من خلال معاملاتهم التجارية، فإن ذلك هو المال الحلال الذي يجعل الله فيه الخير والبركة، فينبغي لهم أن يقنعوا به، ويستمروا في هذا السبيل الذي قام عليه نظام الحياة بين الناس، حتى يهيّئ الله لهم من ذلك الكثير من الخير والبركة، فإن هذا أفضل لهم من السرقة والخيانة وغير ذلك من الأساليب التي تدمّر حياتهم، وتهدّد مصيرهم في الدنيا والآخرة. وهذا هو خط الإيمان الذي يجب على المؤمنين أن يسيروا عليه، ويؤكدوا التزامهم به في كل مراحل حياتهم. {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} فلم يجعلني الله حفيظاً عليكم يطريقة القوّة والإجبار، بل أنا رسول من الله إليكم، لأبلّغكم أوامره ونواهيه، ولأفتح عيونكم على الجانب المشرق من الحياة الذي تلتقون فيه برضى الله ورحمته ولطفه. فإذا تمردتم وعصيتم، وقادكم ذلك إلى السقوط في مهاوي الهلاك، فلا أملك لكم من الله شيئا إذا أراد الله أن يعذبكم في الدنيا بخطاياكم، أو في الآخرة بكفركم وضلالكم...