المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

31- إنهم يطلبون معجزة غير القرآن مع عظم تأثيره لو طلبوا الحق وأذعنوا له ، فلو ثبت أن كتاباً يُقرأ فتتحرك به الجبال من أماكنها ، أو تتصدع به الأرض ، أو تخاطب به الموتى ، لكان ذلك هو القرآن ، ولكنهم معاندون ، ولله - وحده - الأمر كله في المعجزات وجزاء الجاحدين ، وله في ذلك القدرة الكاملة ، وإذا كانوا في هذه الحال من العناد ، أفلا ييأس الذين أذعنوا للحق من أن يؤمن هؤلاء الجاحدين ، وإن جحودهم بإرادة الله ، ولو أراد أن يهتدي الناس جميعاً لاهتدوا ، وأن قدرة الله ظاهرة بين أيديهم ، فلا يزالون تصيبهم بسبب أعمالهم القوارع الشديدة التي تهلكهم ، أو تنزل قريباً منهم ، حتى يكون الموعد الذي وعد الله به ، والله تعالي لا يخلف موعده .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

قوله تعالى : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } ، الآية . نزلت في نفر من مشركي مكة ، منهم أبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ، فقال له عبد الله بن أبي أمية : إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسح ، فإنها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ، لنغرس فيها الأشجار ونزرع ، ونتخذ البساتين ، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود عليه السلام حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا ، فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت ، ولست بأهون على ربك من سليمان ، وأحيي لنا جدك قصيا أو من شئت من آبائنا وموتانا لنسأله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه فأنزل الله عز وجل : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } فأذهبت عن وجه الأرض ، { أو قطعت به الأرض } ، أي : شققت فجعلت أنهارا وعيونا { أو كلم به الموتى } واختلفوا في جواب { لو } : فقال قوم : جوابه محذوف ، اكتفاء بمعرفة السامعين مراده وتقديره : لكان هذا القرآن ، كقول الشاعر :

‌فأقسم لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أراد : لرددناه ، وهذا معنى قول قتادة قال : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم . وقال آخرون : جواب لو مقدم . وتقدير الكلام : وهم يكفرون بالرحمن { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } ، كأنه قال : لو سيرت به الجبال { أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا ، لما سبق من علمنا فيهم ، كما قال : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا } [ الأنعام-111 ] ثم قال : { بل لله الأمر جميعاً } ، أي : في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل . { أفلم ييأس الذين آمنوا } ، قال أكثر المفسرين : معناه أفلم يعلم . قال الكلبي : هي لغة النخع . وقيل : لغة هوازن ، يدل عليه قراءة ابن عباس : أفلم يتبين الذين آمنوا . وأنكر الفراء أن يكون ذلك بمعنى العلم ، وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول : يئستن بمعنى : علمت ، ولكن معنى العلم فيه مضمر . وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا فنزل : { أفلم ييأس الذين آمنوا } يعني : الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من إيمان هؤلاء ، أي لم ييأسوا علما ، وكل من علم شيئا يئس من خلافه ، يقول : ألم ييئسهم العلم ؟ { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } ، من كفرهم وأعمالهم الخبيثة " قارعة " أي : نازلة وداهية تقرعهم من أنواع البلاء ، أحيانا بالجدب ، وأحيانا بالسلب ، وأحيانا بالقتل والأسر . وقال ابن عباس : أراد بالقارعة : السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليهم . { أو تحل } ، يعني : السرية أو القارعة ، { قريباً من دارهم } ، وقيل : أو تحل : أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قريبا من ديارهم ، { حتى يأتي وعد الله } ، قيل : يوم القيامة . وقيل : الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه . { إن الله لا يخلف الميعاد } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

ثم أشار - سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى . . . } .

والمراد بالقرآن هنا : معناه اللغوى ، أى الكلام المقروء .

وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه .

والمعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية ، { سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } أى : تحركت من أماكنها ، { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } أى شققت وصارت قطعا ، { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم .

ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن ، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير ، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب .

وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم ، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية كونية سواه .

ويصح أن يكون المعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، لما آمن هؤلاء المعاندون .

قال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان غلوهم في العناد والطغيان ، وتماديهم في الكفر والضلال ، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة .

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الإِمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .

وقوله - سبحانه - { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً } إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله ، وأن قدرته - سبحانه - لا يعجزها شئ .

أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها ، ولكن إرادته - سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه ، لعلمه - سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات .

وقوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق ، إلا أن شاء الله لهم الهداية ، والاستفهام للإِنكار ، وأصل اليأسك قطع الطمع في الشئ والقنوط من حصوله .

وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :

أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع الطمع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش ، ويعلموا أن الله - تعالى - لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا ، ولكنه لم يشأ ذلك ، ليتميزا الخبيث من الطيب .

وعلى هذا الاتجاه سار الإِمام ابن كثير فقد قال - رحمه الله - : وقوله - تعالى { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أى : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .

وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .

ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطى في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، اطلب لهم - أى للمشركين ، ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا .

أما الاتجاه فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم ، وعليه يكون المعنى : أفلم يعلم المؤمنون أنه - سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا .

وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه :

ومعنى قوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أفلم يعلموا ، وهى كما قال القاسم بن معن لغة هوازن ، وقال الكلبى هي لغة حى من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سيحم بن وئيل الرباحى :

أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى . . . ألم ييأسوا أنى ابن فارس زهدم

وقول رباح بن عدى :

ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه . . . وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقه .

وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشئ عالم بأنه لا يكون . .

والفاء للعطف على مقدر . أى : أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله - تعالى - فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . .

ثم حذر - سبحانه - الكافرين من التمادى في كفرهم ، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .

والقارعة : من القرع ، وهو ضرب الئ بشئ آخر بقوة وجمعها قوارع .

والمراد بها : الرزية والمصيبة والكارثة .

أى : ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال " قارعة " أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم ، فيتطاير شرها إليهم ، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم ، إن الله - تعالى - لا يخلف الميعاد ، أى : موعوده لرسله ولعباده المؤمنين .

وأبهم - سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع ، لتهويله وبيان شدته .

والتعبير بقوله : { ولا يزال } يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية ، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها ، لأن الفعل { لا يزال } يدل علىا لإخبار باستمرار شئ واقع .

ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتى أشار إليها القرآن بقوله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ . يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ . . . } وعبر - سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة ، للمبالغة في شدته وقوته ، حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبتهتهم ويزعجهم ، ولذلك سميت القيامة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب بأهوالها .

وقال - سبحانه - : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مُرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له ، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم ، وتقلق أمنهم ، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .

ولقد قضى الله - تعالى - أمره ، بهزيمتهم في بدر وفى غيرهم ، وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة . وبدخول الناس في دين الله أفواجا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

19

وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب ، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين :

( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد ) . .

ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض ، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ? !

وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال ؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة ، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن جمودها ، وتحول الموتى عن الموات !

( بل لله الأمر جميعا ) .

وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .

فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ؛ وأن يدعوا الأمر لله ، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .

فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم ، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب ، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .

( أو تحل قريبا من دارهم ) . .

فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .

( حتى يأتي وعد الله ) . .

الذي أعطاهم إياه ، وأمهلهم إلى انتهاء أجله :

( إن الله لا يخلف الميعاد ) . .

فهو آت لا ريب فيه ، فملاقون فيه ما وعدوه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } أي : لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق{[15641]} أو تكلم{[15642]} به الموتى في قبورها ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك ؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به ، جاحدون له ، { بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا } {[15643]} أي : مرجع الأمور كلها إلى الله ، عز وجل ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل فلا هادي له ، ومن يهد{[15644]} الله فلا مضل له .

وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة ؛ لأنه مشتق من الجميع ، قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُفِّفَت{[15645]} على داود القراءة ، فكان يأمر بدابته أن تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تُسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه " . انفرد بإخراجه البخاري{[15646]} . والمراد بالقرآن هنا الزبور .

وقوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا{[15647]} { أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } فإنه ليس ثم{[15648]} حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " {[15649]} معناه : أن معجزة كل نبي انقرضت بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد ، لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخْلَقُ عن كثرة الردّ ، ولا يشبع منه العلماء ، هو الفصل ليس بالهزل . من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، أنبأنا بشر بن عمارة ، حدثنا عمر بن حسان ، عن عطية العوفي قال : قلت له : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } الآية ، قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا{[15650]} الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية . قال : قلت : هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[15651]} . وكذا روي عن ابن عباس ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري ، وغير واحد في سبب نزول هذه الآية ، فالله أعلم .

وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم ، فُعل بقرآنكم .

وقوله : { بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا } قال ابن عباس : [ أي ]{[15652]} لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ، ولم يكن ليفعل ، رواه ابن إسحاق بسنده عنه ، وقاله ابن جرير أيضًا .

وقال غير واحد من السلف في قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } أفلم يعلم الذين آمنوا . وقرأ{[15653]} آخرون : " أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " .

وقال أبو العالية : قد يئس{[15654]} الذين آمنوا أن يهدوا ، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا .

وقوله : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } أي : بسبب تكذيبهم ، لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا ، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 27 ] وقال { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الأنبياء : 44 ] . {[15655]} قال قتادة ، عن الحسن : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } أي : القارعة . وهذا هو الظاهر من السياق .

قال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } {[15656]} قال : سرية ، { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } قال : فتح مكة . {[15657]} وهكذا قال عِكْرِمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، في رواية .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } {[15658]} قال : عذاب من السماء ينزل عليهم { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } {[15659]} يعني : نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم .

وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وقال عِكْرِمة في رواية عنه ، عن ابن عباس : { قَارِعَةٌ } أي : نكبة .

وكلهم قال : { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } يعني : فتح مكة . وقال الحسن البصري : يوم القيامة .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ إبراهيم : 47 ] .


[15641]:- في أ : "وتشقق".
[15642]:- في ت : "وتشقق وتكلم".
[15643]:- في ت ، أ : "فلله" وهو خطأ.
[15644]:- في ت ، أ : "يهده".
[15645]:- في ت ، أ : "خفف".
[15646]:- المسند (2/314) وصحيح البخاري برقم (3417).
[15647]:- في أ : "ويعلموا ويتيقنوا".
[15648]:- في أ : "ثمت".
[15649]:- صحيح البخاري برقم (4981) وصحيح مسلم برقم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15650]:- في ت ، أ : "بنا".
[15651]:- ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف (2/191) من طريق بشر بن عمارة به ، وإسناده ضعيف جدا.
[15652]:- زيادة من أ.
[15653]:- في ت : "وقرأها".
[15654]:- في ت ، أ : "أيس".
[15655]:- في ت ، أ : "أفلم يروا" وهو خطأ.
[15656]:- في ت : "يصيبهم".
[15657]:- ومن طريق الطيالسي رواه الطبري في تفسيره (16/456).
[15658]:- في ت : "يصيبهم".
[15659]:- في ت : "أو يحل".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

ويحتمل قوله : { ولو أن قرآنا } الآية ، أن يكون متعلقاً بقوله : { وهم يكفرون بالرحمن } فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل «قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض » - هذا تأويل الفراء وفرقة من المتأولين{[6966]} - وقالت فرقة : بل جواب { لو } محذوف ، تقديره : ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه{[6967]} ، وقال أهل هذا التأويل - ابن عباس ومجاهد وغيرهما - إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً - فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ، وقالت فرقة : جواب { لو } محذوف ، ولكن ليس في هذا المعنى ، بل تقديره : لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به ، وتتضمن الآية - على هذا - تعظيم القرآن ، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية .

وقوله : { بل لله الأمر جميعاً } يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين .

وقوله : { أفلم ييئس الذين آمنوا } الآية ، { ييئس } معناه : يعلم ، وهي لغة {[6968]}هوازن - قاله القاسم بن معن - وقال ابن الكلبي : هي لغة هبيل حي من النخع ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي : [ الطويل ]

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني . . . ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم{[6969]}

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : { ولو أن قرآناً } الآية - على التأويلين في المحذوف المقدر - قال في هذه الآية : أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة ، علماً منهم { أن لو يشاء لهدى الناس جميعاً } .

وقرأ ابن كثير وابن محيصن «يأيس » وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد «أفلم يتبين »{[6970]} .

ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته .

وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد : «ولا يزال الذين ظلموا » ثم قال : { أو تحل } أنت يا محمد { قريباً من دارهم } هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى { أو تحل } القارعة { قريباً من دارهم } .

وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير : «أو يحل » بالياء «قريباً من ديارهم » بالجمع .

و «وعد الله » - على قول ابن عباس وقوم - فتح مكة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة ، وأن حال الكفرة هكذا هي أبداً . و «وعد الله » : قيام الساعة ، و «القارعة » : الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه .


[6966]:الذي ذكره الفراء في معاني القرآن أن جواب (لو) لم يأت، فإن شئت جعلت جوابها متقدما: {وهم يكفرون} ، وإن شئت كان جوابه متروكا لأن أمره معلوم، والعرب تحذف جواب الشيء إذا كان معلوما إرادة الإيجاز، قال الشاعر وهو امرؤ القيس: وأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا ومعنى هذا أن الفراء ذكر التأولين، ولكن يترتب على التأويل الأول أن يكون الجواب: "لما آمنوا"، ولا يصح أن يكون قوله: {وهم يكفرون} جوابا، بل هو دليل الجواب، وعبارة ابن عطية توضح أنه لاحظ ذلك عند تقدير الجواب على رأي الفراء.
[6967]:حذف الجواب لدلالة المعنى عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب، ومنه في القرآن قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب}، وقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار}، ومنه في كلام العرب بيت امرىء القيس الذي استشهد به الفراء، وقول امرىء القيس أيضا: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا
[6968]:?????
[6969]:قيل: إن البيت لابن سحيم واسمه جابر بدليل قوله فيه: "أني ابن فارس زهدم"، وزهدم هي فرس سحيم بن وثيل. ويروى البيت: "أني ابن قاتل زهدم"، وعلى هذا يصح أن ينسب إلى سحيم نفسه، وقوله: ييسرونني: من أيسار الجزور، أي: يجتزونني ويقتسمونني، عليه الآسرون بالميسر يتحاسبون على قسمة فدائه، والشاهد فيه أن (ييأس) بمعنى: يعلم، ومثله في ذلك قول مالك بن عوف: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا بمعنى ألم يعلموا ويتبينوا؟ وكان بعض الكوفيين ينكر أن "يئس" تأتي بمعنى: "علم"، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول ذلك، قال الفراء: وأما قول الشاعر (وهو لبيد): حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا غضفا دواجن قافلا أعصامها فمعناه: حتى إذا يشوا من كل شيء مما يمكن إلا الذي ظهر لهم أرسلوا، فهو بمعنى: "حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا" أرسلوا، كان ما وراءه يأسا. (معاني القرآن 2 ـ 64). قد علق أبو حيان على ذلك فقال: "وقد حفظ ذلك غيره، فهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين يقول: "إنها لغة هوازن"، وكذلك نقلها ابن الكلبي" (البحر 5 ـ 392).
[6970]:قال أبو حيان: "وتدل هذه القراءة على أن معنى {أفلم ييأس} هنا معنى العلم، كما تضافرت النقول أنها لغة لبعض العرب، وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: {أفلم ييأس} كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا (ييئس) بغير صورة الهمزة، وهذه كقراءة (فتبينوا) و (فتثبتوا) وكلتاهما في السبعة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

{ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ، ألم يايئس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا }

يجوز أن تكون عطفاً على جملة { كذلك أرسلناك في أمة } لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السّلام كما أشار إليه صفة { أمة قد خلت من قبلها أمم } ، فتكون جملة { ولو أن قرآناً } تتمة للجواب عن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } .

ويجوز أن تكون معترضة بين جملة { قل هو ربي } وبين جملة { أفمن هو قائم على كل نفس } [ سورة الرعد : 33 ] كما سيأتي هنالك . ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفاً على جملة { هو ربي لا إله إلا هو } .

والمعنى : لو أن كتاباً من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك ، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية .

وجواب { لو } محذوف لدلالة المقام عليه . وحذفُ جواب { لو } كثير في القرآن كقوله : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ سورة الأنعام : 27 ] وقوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ سورة السجدة : 12 ] .

ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم ، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب ، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة :

ولو طَارَ ذو حافر قَبلها *** لطارتْ ولكنه لم يَطِر

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس : أن كفار قريش ، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي فقالوا : لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة ، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها ، أو أخرج قصَياً نكلمه .

وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } [ سورة الأنعام : 111 ] ، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم . وعلى هذا يكون { قطعت به الأرض } قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } [ سورة الأنعام : 94 ] .

وجملة { بل لله الأمر جميعاً } عطف على { ولو أن قرآناً } بحرف الإضراب ، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء ، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم ، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم ، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه .

ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري : لأحملنّك على الأدهم ( يريد القيد ) . فأجابه القبعثري بأن قال : مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، فصرفه إلى لون فرس .

والأمر هنا : التصرف التكويني ، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئاً مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء .

وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب { بل } من طرق القصر ، فاللام في قوله : { الأمر } للاستغراق ، و { جميعاً } تأكيد له . وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب { بل } العاطفة .

وفرع على الجملتين { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا ، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً .

وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } [ سورة الرعد : 27 ] .

و{ ييأس } بمعنى يوقن ويعلم ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع { أن } المصدرية ، وأصله مشتق من اليَأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث ، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة ، ومنه قول سُحَيم بن وَثيل الرياحي :

أقول لهم بالشّعْب إذ يَيْسَرُونَنِي *** ألم تأيسوا أني ابنُ فارس زهدم

وشواهد أخرى .

وقد قيل : إن استعمال يَئِس بمعنى عَلِم لغة هَوازن أو لغة بنِي وَهْبيل ( فخذ من النخَع سمي باسم جَد ) . وليس هنالك ما يلجىء إلى هذا . هذا إذا جعل { أن لو يشاء الله } مفعولاً ل { ييأس } . ويجوز أن يكون متعلق { ييأسْ } محذوفاً دل عليه المقام . تقديره : مِن إيمان هَؤلاء ، ويكونَ { أن لو يشاء الله } مجروراً بلام تعليل محذوفة . والتقدير : لأنه لو يشاء الله لهدى الناس ، فيكون تعليلاً لإنكار عَدَم يأسهم على تقدير حصوله .

{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .

معطوفة على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } على بعض الوجوه في تلك الجملة . وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن ، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به ، فهددوا بما سيحلّ بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلّت فيهم وتخيف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكّة .

واستعمال { لا يزال } في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع ، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض ، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله .

ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } [ سورة البقرة : 155 ] .

ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم . وهو لا ملجىء إليه .

والقارعة : في الأصل وصف من القرع ، وهو ضرب جسم بجسم آخر . يقال : قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة . ولما كان القرع يحدث صوتاً مباغتاً يكون مزعجاً لأجل تلك البغتة صار القرع مجازاً للمباغتة والمفاجأة ، ومثله الطّرْق . وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف مُلتزم الحذف اختصاراً لكثرة الاستعمال ، وهو ما يؤوّل بالحادثة أو الكائنة أو النازلة ، كما قالوا : داهية وكارثة ، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعاً على النفس . ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة .

والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها . وهي مِثل الغارة والكارثة تحلّ فيهم فيصيبهم عذابها ، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم ، فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال ، ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة .

ومعنى { بما صنعوا } بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيئَهم . وأتي في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم .

وضمير { تحل } عائد إلى { قارعة } فيكون ترديداً لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريباً من أرضهم فهم في رعب منها وفزع ويجوز أن يكون { تحل } خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنتَ مع الجيش قريباً من دارهم . والحلول : النزول .

وتحُلّ : بضم الحاء مضارع حَلّ اللازم . وقد التزم فيه الضم . وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح لامية الأفعال ، وهو وجيه .

و { وعد الله } من إطلاق المصدر على المفعول ، أي موعود الله ، وهو ما توعدهم به من العذاب ، كما في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ سورة آل عمران : 12 ] ، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم ، فكان المعنى أنه غلبُ القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى . ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح .

وإتيان الوعد : مجاز في وقوعه وحلوله .

وجملة { إن الله لا يخلف الميعاد } تذييل لجملة { حتى يأتي وعد الله } إيذاناً بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع . والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين .