ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنة المنكرين للبعث فقال : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } . . .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاهلين المنكرين لإِعادة الحياة إلى الأجساد بعد موتها ، قل لهم : يحيى هذه الأجسام والأجساد البالية ، الله - تعالى - الذى أوجدها من العدم دون أن تكون شيئاً مذكوراً ، ومن قدر على إيجاد الشئ من العدم قادر من باب أولى على إعادته بعد هلاكه . وهو - سبحانه - بكل شئ فى هذا الوجود عليم علماً تاماً ، لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء ، سواء أكان هذا الشئ صغيراً أم كبيراً ، مجموعاً أم مفرقا .
قال الشوكانى : وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعى بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة - أى أنها بعد الموت تكون نجسة .
وقال الشافعى : لا تحله الحياة ، وأن المراد بقوله : { مَن يُحيِي العظام } من يحيى أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف . ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر
ولهذا قال تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي : يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها ، أين ذهبت ، وأين تفرقت وتمزقت .
قال{[24880]} الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رِبْعيّ قال : قال عقبة بن عمرو لحذيفة : ألا تحدثُنا ما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته يقول : " إن رجلا حضره الموت ، فلما أيس من الحياة أوصى أهله : إذا أنا متّ فاجمعوا لي حَطَبا كثيرًا جزَلا ثم أوقدوا فيه نارًا ، حتى إذا [ أكلت ] {[24881]} لحمي وخلَصت إلى عظمي فامتُحِشْتُ ، فخذوها فدقوها فَذَروها في اليم . ففعلوا ، فجمعه الله إليه فقال له : لم فعلت ذلك ؟ قال : من خشيتك . فغفر الله له " . فقال عقبة بن عمرو : وأنا سمعته يقول ذلك ، وكان نبَّاشا . {[24882]}
وقد أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الملك بن عمير ، بألفاظ كثيرة{[24883]} منها : أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ، ثم يَذْروا نصفه في البر ونصفه في البحر ، في يوم رائح ، {[24884]} أي : كثير الهواء - ففعلوا ذلك . فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : كن . فإذا هو رجل قائم . فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : مخافتك وأنت أعلم . فما تلافاه أن غفر له " .
وأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول له { يحييها الذي أنشأها } أمر بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل استفهام القائل على خلاف مراده لأنه لما قال : { من يُحي العظامَ وهي رميمٌ } لم يكن قاصداً تطلب تعيين المحيي وإنما أراد الاستحالة ، فأجيب جواب مَن هو متطلبٌ علماً . فقيل له : { يُحييهَا الذي أنشأها أوَّلَ مرةٍ } . فلذلك بني الجواب على فعل الإِحياء مسنداً للمُحيي ، على أن الجواب صالح لأن يكون إبطالاً للنفي المراد من الاستفهام الإِنكاري كأنه قيل : بل يحييها الذي أنشأها أول مرة . ولم يُبنَ الجواب على بيان إمكان الإِحياء وإنما جعل بيانُ الإِمكان في جعل المسند إليه موصولاً لتدل الصلة على الإِمكان فيحصل الغرضان ، فالموصول هنا إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو يحييها ، أي يحييها لأنه أنشأها أول مرة فهو قادر على إنشائها ثاني مرة كما أنشأها أول مرة . قال تعالى : { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } [ الواقعة : 62 ] ، وقال : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] .
وذيل هذا الاستدلال بجملة { وهو بكل خلقٍ علِيمٌ } أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها : كالخلق من نطفة ، والخلق من ذرة ، والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسُوس الفول وسُوس الخشب ، فتلك أعجب من تكوين الإِنسان من عظامه .
وفي تعليق الإِحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحيّ تحلّها الحياة كلحمه ودمه ، وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة . وعن الشافعي : أنّ العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت . قال ابن العربي : وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه . والصحيح ما ذكرناه ، يعني أن بعضهم نسب إلى الشافعي موافقة قول مالك وهو قول أحمد فيصير اتفاقاً وعلماء الطب يثبتون الحياة في العظام والإِحساسَ . وقال ابن زُهر الحكيم الأندلسي في كتاب « التيسير » : إن جالينوس اضطرب كلامه في العظام هل لها إحساساً والذي ظهر لي أن لها إحساساً بطيئاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.