نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ} (79)

ولما كان موطناً يتشوف فيه السامع لهذا الكلام إلى جوابه ، استأنف قوله مخاطباً من لا يفهم هذه المجادلة حق فهمها غيره : { قل } أي لهذا الذي ضرب هذا المثل جهلاً منه في قياسه من يقدر على كل شيء على من لا يقدر على شيء ، وأعاد فعل الإحياء نصاً على المراد دفعاً للتعنت ودلالة على الاهتمام فقال : { يحييها } أي من بعد أن بليت ثاني مرة ، ولفت القول إلى وصف يدل على الحكم فقال : { الذي أنشأها } أي من العدم ثم أحياها { أول مرة } أي فإن كل من قدر على إيجاد شيء أول مرة فهو قادر على إعادته ثاني مرة ، وهي شاهدة بأن الحياة تحل العظم فيتنجس بالموت مما يحكم بنجاسة ميتته { وهو بكل خلق } أي صنع وتقدير ممكن أن يخلق من ذلك ومن غيره ابتداء وإعادة { عليم * } أي بالغ العلم ، فلا يخفى عليه أجراء ميت أصلاً وإن تفرقت في البر والبحر ، ولا شيء غير ذلك ، فالآية من بديع الاحتباك : الإحياء أولاً دال على مثله ثانياً ، والإنشاء ثانياً دال على مثله أولاً ، و { أول مرة } في الثاني دال على " ثاني مرة " في الأول ، فهو على كل شيء قدير كما برهن عليه في سورة طه ، فهو يوجد المقتضيات لكل ممكن يريده ، ويرفع الموانع فيوجد في الحال من غير تخلف أصلاً ، فقد بلغ هذا البيان في الدلالة على البعث الجسماني والروحاني معاً النهاية التي ليس وراءها بيان ، بعد أن وطأ له في هذه السورة نفسها بما لا يحتمل طعناً بقوله : { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } { من بعثنا من مرقدنا } { فإذا هم جميع لدينا محضرون } { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } { اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } .