{ فأما اليتيم فلا تقهر } قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً . وقال الفراء والزجاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى ، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم .
أخبرنا أبو بكر محمد عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحرث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى بن سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ، ثم قال بأصبعيه : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وهو يشير بأصبعه السبابة والوسطى " .
قال - تعالى - : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ . . } والقهر : التغلب على الغير والإِذلال له .
أى : إذا كان الأمر كما أخبرتك من أنك كنت يتيما فآويناك ، وكنت ضالا فهديناك ، وكنت فقيرا فأغنيناك ، فتذكر هذه النعم ، واشكر ربك عليها ، ومن مظاهر هذا الشكر : أن تواسى اليتيم ، وأن تكرمه . وأن تكون رفيقا به . . ولا تكن كأهل الجاهلية الذين كانوا يقهرون الأيتام ويذلونهم ويظلمونهم . .
ولقد استجاب النبى صلى الله عليه وسلم لما أمره ربه به ، فأكرم اليتامى ورعاهم ، وحض على ذلك فى أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم : " " أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة " وأشار صلى الله عليه وسلم . بأصبعيه السبابه والوسطى " . ومن الآيات القرآنية التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ . . . } وقد تكرر الأمر برعاية اليتيم ، وبالمحافظة على ماله فى مطلع سورة النساء خمس مرات قال - تعالى - : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ . . . } وقال - سبحانه - : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ . . . } وقال - عز وجل - : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ . . . } وقال سبحانه - : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ . . . }
وقال - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً . . . }
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم ، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة . . يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم ، وإلى كفاية كل سائل ، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه ، وفي أولها : الهداية إلى هذا الدين :
( فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر . وأما بنعمة ربك فحدث ) . .
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله ،
و ( أما ) تفيد شرطاً مقدراً تقديره : مهما يكن من شيء ، فكان مفادها مشعراً بشرط آخر مقدر هوالذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة ، وتقدير نظم الكلام إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به فعليك بشكر ربك ، وبيّن له الشكر بقوله : { أمّا اليتيم فلا تقهر } الخ .
وقد جُعل الشكر هنا مناسباً للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير : إذا أردتَ الشكر ، لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس ، وصُدر الكلام ب ( أما ) التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة .
ولما كانت ( أمَّا ) بمعنى : ومهما يكن شيء ، قرن جوابها بالفاء .
واليتيم مفعول لفعل { فلا تقهر } . وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعاً وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب ( أما ) أن يكون مفصولاً عن ( أما ) بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط . ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين ( أما ) وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإِرادة الاهتمام بالمقدم لأن موقع ( أما ) لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماماً يرتكز في بعض أجزاء الكلام ، فاجتلاب ( أما ) في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلِّقات الجملة ، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه وكذلك القول في تقديم { السائل } وتقديم { بنعمة ربك } على فعليهما .
وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها . فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب . وذلك ما درج عليه الطيبي ، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة { السائل } بالسائل عن الدين والهدى ، فقوله : { فأما اليتيم فلا تقهر } مقابل لقوله : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] لا محالة ، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليُتم ، فكن أنت مُكرماً للأيتام رفيقاً بهم ، فجمع ذلك في النهي عن قهره ، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى : { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] وقال : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً } [ الإسراء : 28 ] .
والقهر : الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا ، وتكون هذه المعاني بالفِعل كالدَّعّ والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } [ النساء : 5 ] ، وتكون بالإِشارة مثل عُبوس الوجه ، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامَل به غير اليتيم في مثل ذلك فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] .
وقوله : { وأما السائل فلا تنهر } مقابل قوله : { ووجدك ضالاً فهدى } [ الضحى : 7 ] لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق ، فالضال معتبر من نصف السائلين .
والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسؤول كما قال كعب :
وقال كُل خليل كنت آمله *** لا أُلْهِيَنَّك أني عنك مشغول
فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين .
فلا يختص السائلُ بسائل العطاء بل يشمل كل سائل وأعظم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاد المسترشدين ، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عيينة . روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستَوْصوا بهم خيراً " قال هارون العبدي : كنا إذا أتيْنا أبا سعيد يقول : مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .