ثم هددهم - سبحانه - تهديدا ترتعد له القلوب فقال : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } .
وقوله { يَوْمَ } منصوب بفعل مقدر . وقوله { نَبْطِشُ } من البطش بمعنى الأخذ بقوة وعنف . يقال : بطش فلان بفلان يبطش به ، إذا نكل به تنكيلا شديدا .
أى : اذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ يوم أن نأخذ هؤلاء الكافرين أخذ عزيز مقتدر ، حيث ننتقم انتقاما يذلهم ويخزيهم .
وهذا البطش الشديد منا لهم سيكون جزاء منه فى الدنيا ، كانتقامنا منهم يوم بدر وسيكون أشده وأعظمه وأدومه عليهم .
وبذلك نرى السورة الكريمة بعد ان مدحت القرآن الكريم مدحا عظيما ، وبينت جانبا من مظاهر فضل الله - تعالى - على عباده ، أخذت فى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه ، وهددت هؤلاء الأعداء بسوء المصير فى الدنيا ، وفى الآخرة .
وقوله عز وجل : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) . . فسر ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - بيوم بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود . رضي الله عنه ، وجماعة عنه على تفسير الدخان بما تقدم وروي أيضاً عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من رواية العوفي عنه وأبي بن كعب - رضي الله عنه - وهو محتمل : والظاهر أن ذلك يوم القيامة . وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً . قال ابن جرير : حدثني يعقوب . حدثنا ابن علية . حدثنا خالد الحذاء . عن عكرمة قال : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - قال ابن مسعود - رضي الله عنه - البطشة الكبرى يوم بدر . وأنا أقول : هي يوم القيامة . وهذا إسناد صحيح عنه . وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه ، والله أعلم " . . انتهى كلام ابن كثير . .
ونحن نختار قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة ، وقول ابن كثير في تفسيره . فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم ، في مثل هذه المناسبة . ومعناه : إنهم يشكون ويلعبون . فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب . يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس . ووصف هذا بأنه عذاب أليم . وصور استغاثتهم : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) . . ورده عليهم باستحالة الاستجابة ، فقد مضى وقتها : ( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) . . يعلمه ذلك الغلام الأعجمي ! وهو - كما زعموا - مجنون . .
وفي ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم : إن أمامكم فرصة بعد لم تضع ، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلاً وأنتم الآن في الدنيا . وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون . وأنتم الآن في عافية لن تدوم . فإنكم عائدون إلينا ( يوم نبطش البطشة الكبرى ) . . يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له . ( إنا منتقمون )من هذا اللعب الذي تلعبون ، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إذ تقولون عنه : ( معلم مجنون ) . . وهو الصادق الأمين . .
بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات ، كما يبدو لنا ، والله أعلم بما يريد .
وقوله تعالى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضًا عن ابن عباس [ وجماعة ]{[26197]} من رواية العوفي ، عنه . وعن أبي بن كعب وجماعة ، وهو محتمل .
والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا .
قال{[26198]} ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة {[26199]} .
وهذا إسناد صحيح عنه ، وبه يقول الحسن البصري ، وعكرمة في أصح الروايتين{[26200]} ، عنه .
ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة ، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمماً به وتخويفاً منه ، والعامل فيه { منتقمون } ، وقد ضعف البصريون هذا من حيث هو خبر إن ، وأبعدوا أن يعمل خبرها فيما قبلها ، وقالوا العامل فعل مضمر يدل عليه { منتقمون } .
واختلف الناس في يوم { البطشة الكبرى } ، فقال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة : هو يوم القيامة وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس أيضاً وأبي بن كعب ومجاهد : هو يوم بدر .
وقرأ جمهور الناس : «نَبطِش » بفتح النون وكسر الطاء . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : بضم الطاء . وقرأ الحسن أيضاً وأبو رجاء وطلحة بن مصرف : بضم النون وكسر الطاء ، ومعناها : نسلط عليهم من يبطش بهم ، ثم ذكر تعالى قوم فرعون على جهة المثال لقريش .
هذا هو الانتقام الذي وُعد به الرسول صلى الله عليه وسلم وتُوعِّد به أيمة الكفر . والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] فإن السامع يُثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعْن فأجيب بأن الانتقام منهم هو البطشة الكبرى ، وهي الانتقام التامّ ، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدَا بخبر بحرف التأكيد دفعاً للتردد .
وأصل تركيب الجملة : إنا منتقمون يوم نبطش البطشة الكبرى ، ف { يوم } منصوب على المفعول فيه لاسم الفاعل وهو { منتقمون } .
وتقدم على عامله للاهتمام به لِتهويله ولا يمنع من هذا التعليق أن العامل في الظرف خبر عن ( إنَّ ) بناء على الشائع من كلام النحاة أن ما بعد ( إنَّ ) لا يعمل فيما قبلها فإن الظروف ونحوها يتوسع فيها .
و { البطشة الكبرى } : هي بطشة يوم بدر فإن ما أصاب صناديد المشركين يومئذٍ كان بطشة بالشرك وأهلِه لأنهم فقدوا سادتهم وذوي الرأي منهم الذين كانوا يسيّرون أهل مكة كما يريدون .
والبطشة : واحدة البطش وهو : الأخذ الشديد بعنف ، وتقدم في قوله تعالى : { أم لهم أيد يبطشون بها } في سورة الأعراف ( 195 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم نبطش البطشة الكبرى} يعني العظمى، فكانت البطشة في المدينة يوم بدر، أكثر مما أصابهم من الجوع بمكة، فذلك قوله: {إنا منتقمون} بالقتل، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجل الله أرواحهم إلى النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم، والضرّ الحالّ بكم، ثم عدتم في كفركم، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم ربكم، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي الكبرى في عاجل الدنيا فأهلككم، وكشف الله عنهم فعادوا، فبطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدنيا، فأهلكهم قتلاً بالسيف.
وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى؛ فقال بعضهم: هي بطشة الله بمشركي قريش يوم بدر...
وقال آخرون: بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة...
وقد بيّنا الصواب في ذلك فيما مضى، والعلة التي من أجلها اخترنا ما أخترنا من القول فيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى، وفيها قولان:.. يحتمل: ثالثاً: أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا.
{إِنَّا مُنتَقِمُونَ} أي من أعدائنا.
وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة، والنقمة قد تكون قبلها، قاله ابن عيسى.
الثاني: أن العقوبة قد تكون في المعاصي، والنقمة قد تكون في خلقه لأجله. الثالث: أن العقوبة ما تقدرت، والانتقام غير مقدر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى) فالبطش: الأخذ بشدة وقع الألم... وأكثر ما يكون بوقوع الضرب المتتابع، فأجري إفراغ الألم المتتابع مجراه...
وقوله (إنا منتقمون) إخبار منه تعالى أنه ينتقم من هؤلاء الكفار بإنزال العقوبة بهم، وقد فرق قوم بين النقمة والعقوبة: بأن النقمة ضد النعمة، والعقوبة ضد المثوبة، فهي مضمنة بأنها بعد المعصية في الصفة، وليس كذلك النقمة، وإنما تدل الحكمة على أنها لا تقع من الحكيم إلا لأجل المعصية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمماً به وتخويفاً منه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان اليوم قد يراد به الزمن المجتمع في حكم من الأحكام، وكان زمان الدخان إن كان المراد به القحط الذي كان قبل يوم بدر أو ما يقرب من الساعة يسمى يوماً واحداً لاتحاد ذلك الحكم، أبدل من {يوم الدخان} قوله تهديداً بشق الأكباد: {يوم نبطش} أي بما لنا من العظمة، والبطش: الأخذ بقوة {البطشة الكبرى} أي التي تنحل لها عراهم وتنخل بها عزائمهم وقواهم ولا يحتملها حقائقهم ولا مناهم، سواء كانت البطشة يوم بدر أو غيره فيخسر هنالك من كشف حال الابتلاء عن طغيانه، وتمرده على ربه وعصيانه، ويجوز أن يكون هذا ظرفاً لعائدون. ولما كان ما له سبحانه من الحلم وطول الإمهال موجباً لأهل البلادة والغلظة الشك في وعيده، قال مؤكداً {إنا منتقمون} أي ذلك صفة ثابتة لم نزل نفعلها بأعدائنا لنسر أضدادهم في أوليائنا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إن السامع يُثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعْن فأجيب بأن الانتقام منهم هو البطشة الكبرى، وهي الانتقام التامّ، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدَا بخبر بحرف التأكيد دفعاً للتردد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«منتقمون» من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقاً فإنّها تعني العقوبة والجزاء، وإن كانت كلمة الانتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الانتقام، إلاّ أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.