ثم ساق لهم - سبحانه - ما يؤكد عدم تغيير سنته فى خلقه ، بأن حضهم على الاعتبار بأحوال المهلكين من قبلهم ، والذين يرون بأعينهم آثارهم ، فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } .
أى أعمى هؤلاء الماكرين عن التدبر ، ولم يسروا فى الأرض ، فتيروا بأعينهم فى رحلاتهم إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما ، كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم ، لقد دمرناهم تدميرا ، مع أنهم كانوا أشد من مشركى مكة قوة ، وأكثر جمعا { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } أى وما كان من شأن الله - تعالى - أن يعجزه شئ من الأشياء ، سواء أكان فى السماوات أم فى الأرض . بل كل شئ تحت أمره وتصرفه .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ عَلِيماً } بكل شئ { قَدِيراً } على كل شئ .
والأمور لا تمضي في الناس جزافاً ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثاً ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول . والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة ، محصورين في فترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة ، وسنن الوجود ، فيوجههم دائماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس . ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم ؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس .
وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول :
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض . إنه كان عليماً قديراً .
والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ؛ والوقوف على مصارع الغابرين ، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه . . كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى . .
ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين ، وآثار الذاهبين . وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ، فلا تقف . وإذا وقفت لا تحس . وإذا أحست لا تعتبر . وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة . وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية . وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم ، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ؛ لا رابط لها ، ولا قاعدة تحكمها . والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس .
وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم . أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى . القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين :
( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .
ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض اسانيدها :
يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ؛ وتقوم قدرته إلى جانب علمه . فلا يند عن علمه شيء ، ولا يقف لقدرته شيء . ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض . ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه : ( إنه كان عليماً قديراً ) . .
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة : سيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل ؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم ، وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة ، وكثرة العدد والعُدَد ، وكثرة الأموال والأولاد ، فما أغنى ذلك شيئا ، ولا دفع{[24639]} عنهم من عذاب الله من شيء ، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء ، إذا أراد كونه في السموات والأرض ؟ { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } أي : عليم بجميع الكائنات ، قدير على مجموعها .
لما توعدهم تعالى في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة ، وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها ، و «يعجزه » معناه يفوته ويفلته ، و { من } في قوله تعالى : { من شيء } زائدة مؤكدة ، و «عليم قدير » صفتان لائقتان بهذا الموضع ، لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء .