ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك عنهم ما علمه منهم من إصرارهم على الدخول في الدين الحق ، فقال . { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين } .
فالآية الكريمة من تتمة قولهم .
والاستفهام هنا لإِنكار انتفاء الإِيمان منهم مع قيام موجباته ، وظهور أماراته ووضوح أدلته وشواهده .
والمعنى : وأي مانع يمنعنا من الإِيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد ، وبما جاءنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن يهدي إلى الرشد ومن توجيهات توصل إلى السعادة ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا - بسبب إيماننا - مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقيدة السليمة ، وبالعبادات الصحيحة وبالإخلاق الفاضلة وهم أتباع هذا النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم فأنت تراهم بعد أن استمعوا إلى القرآن تأثرت نفوسهم به تأثراً شديداص فاضت معه أعينهم بالدمع . ثم بعد ذلك التمسوا من الله - تعالى - أن يكتبهم مع الأمة الإِسلامية التي تشهد على غيرها يوم القيامة . ثم بعد ذلك استنكروا واستبعدوا أن يعوقهم معوق عن الإِيمان الصحيح مع قيام موجباته . وهذا كله يدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ومسارعتهم إلى قبول الحق عند ظهوره بدون تردد أو تقاعس :
وقولهم - كما حكى القرآن عنهم - { وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا } يدل على قوة إيمانهم ، ’ وصدق يقينهم ، لأنهم مع هذا الإِقبال الشديد على الدين الحق والمسارعة إلى العمل الصالح ، لم يجزموا بحسن عاقبتهم ، بل التمسوا من الله - تعالى - الطمع في مغفرته ، وفي أن يجعلهم مع القوم الصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا المؤمن الصادق يستصغر عمله بجانب فضل الله ونعمه ، ويقف من جزائه وثوابه - سبحانه - موقف الخوف والرجاء .
ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله ؛ أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به ، ولا يأملوا - بهذا الإيمان - أن يقبلهم ربهم ، ويرفع مقامهم عنده ، فيدخلهم مع القوم الصالحين : ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ؟ ) . .
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق . . موقف الاستماع والمعرفة ، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر ، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة ، مع دعاء الله - سبحانه - أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق ؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكا وعملا وجهادا لإقراره في الأرض ، والتمكين له في حياة الناس ثم وضوح الطريق ففي تقديرهم وتوحده ؛ بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد : هو طريق الإيمان بالله ، وبالحق الذي أنزله على رسوله ، والأمل - بعد ذلك - في القبول عنده والرضوان .
{ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله [ عز وجل ]{[10220]} { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِِ ] }{[10221]} الآية [ آل عمران : 199 ] ، وهم الذين قال الله فيهم : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ] }{[10222]} إلى قوله { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 52 - 55 ] ؛ ولهذا قال تعالى ههنا : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ }{[10223]}
{ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين ، والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم أمنتم ؟ و{ لا نؤمن } حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل ، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله ، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين . أو بكتابه ورسوله فإن الإيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئه وتعظيما ، ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف ، والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عامل الأولى مقيدا بها أو نؤمن .
قولهم { وما لنا } توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم . فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير { وما لنا } ابتداء وخبر ، و { لا نؤمن } في موضع الحال ، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة : كما تقول جاء زيد راكباً وأنت قد سئلت هل جاء ماشياً أو راكباً . وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا » . { ونطمع } تقديره ونحن نطمع . فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون » محمد وأصحابه ، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين .