ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما لقنه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الرد عليهم ، فقال : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض وَهُوَ السميع العليم } .
أى : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الرد على ما تناجوا به سرا : ربى الذى أرسلنى لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . يعلم ما تقولونه سواء كان سرا أم جهرا ، وسواء أكان القائل موجودا فى السماء أم فى الأرض ، وهو وحده السميع لجميع ما يسمع ، العليم بكل شىء فى هذا الكون .
وما دام المر كذلك فأنا سأمضى فى طريقى مبلغا رسالته - سبحانه - ، أما أنتم فسترون سوء عاقبتكم إذا ما سرتم فى طريق الكفر والعناد .
وفى قراءة سبعية بلفظ ( قل ) على الأمر للنبى - صلى الله عليه وسلم - .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - ربى يعلم القول فى السماء والأرض وهو السميع العليم .
عند ذلك وكل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أمرهم وأمره إلى ربه ، وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية ؛ وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره !
( قال : ربي يعلم القول في السماء والأرض ، وهو السميع العليم ) .
فما من نجوى في مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها - وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض . . . وما من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها - وهو السميع العليم .
{ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية ، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين ، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض . وقوله : { وهو السميع العليم } أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم ، وفي هذا تهديد لهم ووعيد .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : «قُلْ رَبّي » فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «قُلْ رَبْي » على وجه الأمر . وقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة : قالَ رَبّي على وجه الخبر .
وكأن الذين قرؤوه على وجه الأمر أرادوا من تأويله : قل يا محمد للقائلين أتأْتُونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ : ربي يعلم قول كلّ قائل في السماء والأرض ، لا يخفى عليه منه شيء وهو السميع لذلك كله ولِما يقولون من الكذب ، العليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه وباطل ما تقولون وغير ذلك من الأشياء كلها . وكأن الذين قرءوا ذلك قال على وجه الخبر أرادوا : قال محمد : ربي يعلم القول خبرا من الله عن جواب نبيه إياهم .
والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وجاءت بهما مصاحف المسلمين متفقتا المعنى وذلك أن الله إذا أمر محمدا بقيل ذلك قاله ، وإذا قاله فعن أمر الله قاله ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته .
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم وللناس جميعاً { قل ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «قل ربي » وقرأ حمزة والكسائي «قال ربي يعلم » على معنى الخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واختلف عن عاصم ، قال الطبري رحمه الله وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الإهماز .
أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فبعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علِم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر ، فالتعريف في { القول } للاستغراق ، وبذلك كان هذا تذييلاً ، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله { وهو السميع العليم } .
وقرأ الجمهور { قل } بصيغة الأمر ، وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص ، وخلف { قال } بصيغة الماضي ، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة ، أي قال الرسول لهم ، حكى الله ما قاله الرسول لهم ، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور { قل ربي يعلم القول } لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله .
وإنما لم يقل يعلم السرّ لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السرّ وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسرّ وغيره بناء على متعارف الناس . وأما قوله في سورة [ الفرقان : 6 ] { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار ، وكان قول الذين كفروا : { إن هذا إلا إفك افتراه } [ الفرقان : 4 ] صادراً منهم تارة جهراً وتارة سراً فأعلمهم الله باطلاعه على سرّهم . ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: «قُلْ رَبّي» فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: «قُلْ رَبي» على وجه الأمر. وقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة:"قالَ رَبّي" على وجه الخبر.
وكأن الذين قرأوه على وجه الأمر أرادوا من تأويله: قل يا محمد للقائلين "أتأْتُونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ": ربي يعلم قول كلّ قائل في السماء والأرض، لا يخفى عليه منه شيء وهو السميع لذلك كله ولِما يقولون من الكذب، العليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه، وباطل ما تقولون وغير ذلك من الأشياء كلها. وكأن الذين قرأوا ذلك قال على وجه الخبر أرادوا: قال محمد: ربي يعلم القول خبرا من الله عن جواب نبيه إياهم.
والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، وجاءت بهما مصاحف المسلمين متفقتا المعنى وذلك أن الله إذا أمر محمدا بقيل ذلك قاله، وإذا قاله فعن أمر الله قاله، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال ربي يعلم القول في السماء والأرض} يشبه أن يكون قوله: {يعلم القول في السماء الأرض} القول الذي أسروا في ما بينهم {هل هذا إلا بشر مثلكم} وقوله {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} وقوله {أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر} [الآية: 5] وأمثال ما قالوا فيه، ونسبوه إليه، أي قل لهم: ربي يعلم ذلك القول منكم في السماء والأرض لتنتهوا عن ذلك، لأن من يعلم في الشاهد أن أحدا يطلع على جميع ما يختاره من القول والفعل ترك ذلك، وامتنع عن التفوه به والإقدام على ما يختاره، أو أن يكون قال ذلك على الابتداء والائتناف أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء {وهو السميع العليم} السميع لقولهم، العليم بأفعالهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى} [الأنبياء: 3]؟ قلت: القول عام يشمل السرّ والجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يعلم أقوالكم هذه، وهو بالمرصاد في المجازاة عليها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الله تعالى لا يقر من كذب عليه، فضلاً عن أن يصدقه ويؤيده، ولا يخفى عليه كيد حتى يلزم منه نقص ما أراده، قال دالاً لهم على صدقه ومنبهاً على موضع الجحة في أمره -على قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، و جواباً لمن كأنه قال: فماذا يقال لهؤلاء؟- على قراءة الباقين: {قال ربي} المحسن إليّ بتأييدي بكل ما يبين صدقي ويحمل على أتباعي {يعلم القول} سواء كان سراً أو جهراً.
ولما كان من يسمع من هاتين المسافتين يسمع من أيّ مسافة فرضت غيرهما قطعاً، لم يحتج إلى جمع على أنه يصح إرادة الجنس فقال: {في السماء والأرض} على حد سواء، لأنه لا مسافة بينه وبين شيء من ذلك {وهو} أي وحده {السميع العليم} يسمع كل ما يمكن سمعه، ويعلم كل ما يمكن علمه من القول وغيره، فهو يسمع سركم، ويبطل مكركم، ويسمع ما أنسبه إليه من هذا الذكر، فلو لم يكن عنه لزلزل بي، وقد جرت سنته القديمة في الأولين، بإهلاك المكذبين، وتأييد الصادقين، وإنجائهم من زمن نوح عليه السلام إلى هذا الزمان، ولعلمه بحال الفريقين.
وستعلمون لمن تكون له العاقبة، وقد أشار إلى هذا في هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين دل بقصصهم في هذه السورة على ما تقدمها من الأحكام والقضايا {وكنا به عالمين} [الأنبياء: 51] {إذ قال لأبيه وقومه وكنا لحكمهم شاهدين} و {كنا بكل شيء عالمين} [الأنبياء: 88] {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109] {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} [الأنبياء: 110]
{إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] {ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 55].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عند ذلك وكل الرسول [صلى الله عليه وسلم] أمرهم وأمره إلى ربه، وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية؛ وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره!
(قال: ربي يعلم القول في السماء والأرض، وهو السميع العليم).
فما من نجوى في مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها -وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض... وما من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها- وهو السميع العليم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهو في معنى التفويض إليه سبحانه، لأنه رسوله الذي أرسله، وكل كيد له هو لتعويق الرسالة فهو حافظه وكالئه، وهو الذي يحمي الذين اتبعوه عن فتنة القول الذي يدبره هؤلاء المشركون...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأرْضِ} فهو الذي يقرر إن كنت صادقاً في ما أدّعيه من رسالته أو كنت كاذباً في ذلك، وهو الذي يعلم إن كان ما جئت به هو السحر، أو الحق؛ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع كلامي وكلامكم، ويعلم سرّي وسرّكم في ما أضمر وتضمرون من الخير والشر في ذلك كله. فليست المشكلة ما تقولون، بل المشكلة ماذا يعلم الله من الحق الذي يمثل حقيقة الموقف كله. وهذا هو الموقف النبوي الثابت الذي يعبر عن الثقة بالله، ما يجعله يتابع طريقه بقوة، ويمارس دعوته بصلابة، ليوحي، في ذلك، للآخرين بالثقة بالموقف الذي يربط الأشياء كلها بالله.