قوله تعالى : { ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، أراد : أن الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم ، بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم ، فسلبهم النعمة . وقال السدي : نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش وأهل مكة فكذبوه ، وكفروا به ، فنقله الله إلى الأنصار . قوله تعالى : { وأن الله سميع عليم } .
وقوله : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ . . . } بيان لسنة من سننه - تعالى - في خلقه ، وتعليل لتعذيب أولئك الكفار ، ولسلب نعمه عنهم وعن أشباههم من العصاة والجاحدين واسم الإِشارة : { ذلك } يعود إلى تعذيب الكفرة المعبر عنه بقوله - تعالى - { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } .
وهو ، أى : اسم الإِشارة مبتدأ وخبره قوله - سبحانه - { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً . . } إلخ .
والمعنى : ذلك الذي نزل بهؤلاء الكفرة من التعذيب والخذلان عدل إلهيى ، فقد جرت سنته - سبحانه - في خلقه ، واقتضت حكمته في حكمه ألا يبدل نعمه بنقم إلا بسبب ارتكاب الذنوب ، واجتراح السيئات ، فإذا لم يتلق الناس نعمه - عز وجل - بالشكر والطاعة ، وقابلوها بالكفر والعصيان ، بدل نعمتهم بنقم جزاء وفاقا .
وشبيه بهذا قوله - تعالى - في آية أخرى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } قال الفخر الرازى : قال القاضى : معنى الآية أنه - تعالى - أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل ، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر ، فقد غيروا نعمة الله - تعالى - على أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن .
قال : وهذا من أوكد ما يدل على أنه - تعالى - لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركى مكة حتى غير الله نعمته عليهم ، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة ؟ .
قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأولئك كانوا قبل بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت ، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإِمهال وعاجلهم بالعذاب .
وقوله : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } معطوف على قوله : { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً } إلخ .
أى : ذلك التعذيب بسبب جحودهم لنعم ، وبسبب أنه - سبحانه - سميع لما نطقوا به من سوء ، وعليم بما ارتكبوه من قبائح ومنكرات ، وقد عاقبتهم على ذلك بما يستحقون من عذاب : { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
ولقد آتاهم الله من نعمته ، ورزقهم من فضله ، ومكن لهم في الأرض ، وجعلهم خلائف فيها . . وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً ، لينظر أيشكرون أم يكفرون ? ولكنهم كفروا ولم يشكروا ؛ وطغوا وبغوا بما أعطوا ، وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة . . وجاءتهم آيات الله فكفروا بها . . وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها . . وعندئذ غير الله النعمة ، وأخذهم بالعذاب ، ودمر عليهم تدميراً :
( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وأن الله سميع عليم ) .
يخبر تعالى عن تمام عدله ، وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد{[13091]} إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْوَالٍ } [ الرعد : 11 ] ،
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم وفعلنا ذلك بهم ، بأنهم غيروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسوله منهم وبين أظهرهم ، بإخراجهم إياه من بينهم وتكذيبهم له وحربهم إياه فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم ، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذلكَ بأنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرا نِعْمَةً أنْعَمَها على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُوا ما بأنْفُسِهمْ يقول : نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم ، أنعم به على قريش وكفروا ، فنقله إلى الأنصار .
وقوله : وأنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول : لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه ، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرّ ، عليم بما تضمره صدورهم ، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا .
{ ذلك } في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره عند سيبويه الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون التقدير وجب ذلك ، والباء باء السبب{[5415]} ، وقوله { لم يك مغيراً } جزم ب { لم } وجزمه بحذف النون ، والأصل يكون فإذا دخلت لم جاء لم يكن ، ثم قالوا «لم يك مغيراً » كأنهم قصدوا التخفيف فتوهموا دخول «لم » على يكن فحذفت النون للجزم ، وحسن ذلك فيها لمشابهتها حروف اللين التي تحذف للجزم كما قالوا لم أبال ، ثم قالوا لم أبل فتوهموا دخول لم على أبال ؟ ومعنى هذه الآية الإخبار بأن الله عز وجل إذا أنعم على قوم نعمة فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغيرها وتكديرها حتى يجيء ذلك منهم بأن يغيروا حالهم التي تراد وتحسن منهم ، فإذا فعلوا ذلك وتلبسوا بالتكسب للمعاصي أو الكفر الذي يوجب عقابهم غير الله نعمته عليهم بنقمته منهم ، ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا ما كان يجب أن يكونوا عليه ، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته .
وقوله { وأن } عطف على الأولى ، و { سميع عليم } أي لكل وبكل ما يقع من الناس في تغيير ما بأنفسهم لا يخفى عليه من ذلك سر ولا جهر .
استئناف بياني . والإشارة إلى مضمون قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] أي ذلك المذكور بسبب أنّ الله لم يك مغيّرا إلخ أي ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم .
والإشارة تفيد العناية بالمخبر عنه ، وبالخبر . والتسبيب يقتضي أنّ آل فرعون والذين من قبلهم كانوا في نعمة فغيرها الله عليهم بالنقمة ، وأنّ ذلك جرى على سنة الله أنّه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ذلك بأنفسهم ، وأنّ قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسببّوا بأنفسهم في زوال النعمة كما قال تعالى : { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } [ القصص : 58 ] .
وهذا إنذار لقريش يحلّ بهم مثل ما حَلّ بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة . فقوله : { لم يك مغيراً } مؤذن بأنّه سنة الله ومقتضى حكمته ، لأنّ نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيّه .
و« التغيير » تبديل شيء بما يضاده فقد يكون تبديلَ صورة جسم كما يقال : غَيّرتُ داري ، ويكون تغيير حال وصفة ومنه تغيير الشيب أي صباغه ، وكأنه مشتقّ من الغير وهو المخالف ، فتغيير النعمة إبدالها بضدّها وهو النقمة وسوء الحال ، أي تبديل حالة حسنة بحالة سيّئة .
ووصف النعمة ب { أنعمها على قوم } للتذكير بأنّ أصل النعمة من الله .
و { ما بأنفسهم } موصول وصلة ، والباء للملابسة ، أي ما استقرّ وعلق بهم . وما صْدق { ما } النعمة التي أنعم الله عليهم كما يؤذن به قوله : { مغيراً نعمة أنعمها على قوم } والمراد بهذا التغيير تغيير سببه . وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران .
ذلك أنّ الأمم تكون صالحة ثم تتغيّر أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها ، فذلك تغيير ما كانوا عليه ؛ فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم ، فإذا أصلحوا استمرّت عليهم النعم مثل قوم يونس وهم أهل ( نينوَى ) ، وإذا كذَّبوا وبطِروا النعمة غيّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة . فالغاية المستفادة من { حتّى } لانتفاء تغيير نعمة الله على الأقوام هي غاية متّسعة ، لأنّ الأقوام إذا غيّروا ما بأنفسهم من هُدى ؛ أمهلهم الله زمناً ثم أرسل إليهم الرسل فإذا أرسل إليهم الرسل فقد نبّههم إلى اقتراب المؤاخذة ثم أمهلهم مدّة لتبليغ الدعوة والنظر فإذا أصرّوا على الكفر غيَّر نعمته عليهم بإبدالها بالعذاب أو الذلّ أو الأسر كما فعل ببني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض فسلَّط عليهم الأشوريين .
و { أنّ الله سميع عليم } عطف على قوله : { بأن الله لم يك مغيراً } أي ذلك بأنّ الله يعلم ما يضمره الناس وما يعملونه ويعلم ما ينطقون به فهو يعاملهم بما يعلم منهم . وذكر صفة { سميع } قبل صفة { عليم } يومىء إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرَّض بهم متعلّق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى .