ثم انتقل - سبحانه - من الحديث عن قبائحهم المتعلقة بوحدانية الله تعالى ، وبشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديث عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتكاثرة ، ألا وهى إنكارهم للبعث والحساب ، فقال - تعالى - : { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } .
أى ؛ إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا باتخاذ آلهة من دون الله - تعالى - ، ولم يكتفوا بالسخرية من رسوله صلى الله عليه وسلم بل أضافوا إلى ذلك أنهم كذبوا بيوم القيامة وما فيه من بعث وحشر وثواب وعقاب . والحال أننا بقدرتنا وإرادتنا قد أعددنا وهيأنا لمن كذب بهذا اليوم سعيرا . أى : نارا عظيمة شديدة الاشتعال .
وقال - سبحانه - : { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة } ولم يقل : لمن كذب بها . للمبالغة فى التشنيع عليهم ، والزجر لهم ، إذ أن التكذيب بها كفر يستحق صاحبه الخلود فى النار المستعرة .
وعند هذا الحد من استعراض مقولاتهم الظالمة عن الله وعلى رسول الله ، يكشف عن مدى آخر من آماد كفرهم وضلالهم . فهم يكذبون بالساعة ، ومن ثم لا يتحرجون من ظلم ولا افتراء ، ولا يخشون يوما يلقون فيه الله فيحاسبهم على الظلم والافتراء . وهنا يصورهم في مشهد من مشاهد القيامة يزلزل القلوب الصلدة ويهز المشاعر الخامدة ، ويطلعهم على هول ما ينتظرهم هناك ؛ وعلى حسن ما ينتظر المؤمنين في ذلك الهول العظيم :
( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا . لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ) !
قل : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ، لهم فيها ما يشاءون خالدين ، كان على ربك وعدا مسؤلا ? . .
بل كذبوا بالساعة . . وبلغوا هذا المدى من الكفر والضلال . هذا المدى الذي يصوره التعبير بعيدا متطاولا ، يضرب عن كل ما قبله ليبرزه ويجسمه : ( بل كذبوا بالساعة ) . . . ثم يكشف عن الهول الذي ينتظر أصحاب هذه الفعلة الشنيعة . إنها السعير حاضرة مهيأة : ( وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) . .
والتشخيص - ونعني به خلع الحياة وتجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة المجسمة من الأشياء والمعاني والحالات النفسية - فن في القرآن ، يرتفع بالصور وبالمشاهد التي يعرضها إلى حد الإعجاز ، بما يبث فيها من عنصر الحياة .
وقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } أي : إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً ، لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا ، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال ، { وأعتدنا } أي : وأرصدنا { لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } أي : عذابا أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن سعيد بن جبير : " السَّعِير " : واد من قيح جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ كَذّبُواْ بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً } .
يقول تعالى ذكره : ما كذّب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من الحقّ ، من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد ولا يصدّقون بالثواب والعقاب ، تكذيبا منهم بالقيامة وبعث الله الأموات أحياء لحشر القيامة . وأَعْتَدْنا يقول : وأعددنا لمن كذّب ببعث الله الأموات أحياء بعد فنائهم لقيام الساعة ، نارا تسّعر عليهم وتتقد . إذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ يقول : إذا رأت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء المكذّبين أشخاصَهم من مكان بعيد ، تغيظت عليهم وذلك أن تغلى وتفور . يقال : فلان تغيظ على فلان ، وذلك إذ غضب عليه فَغَلَى صدره من الغضب عليه وتبين في كلامه . وزفيرا ، وهو صوتها .
فإن قال قائل : وكيف قيل : سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا والتغيظ : لا يسمع ؟ قيل : معنى ذلك : سمعوا لها صوت التغيظ ، من التلهب والتوقد .
حدثني محمود بن خداش ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطيّ ، قال : حدثنا أصبع بن زيد الورّاق ، عن خالد بن كثير ، عن فُدَيك ، عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يَقُولُ عَليّ ما لَمْ أقُلْ فَلْيَتَبَوّأْ بينَ عَيْنَيْ جَهَنّمَ مَقْعَدا » قالوا : يا رسول الله ، وهل لها من عين ؟ قال : «أَلمْ تَسْمَعُوا إلى قَوْلِ اللّهِ : إذَا رأتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ؟ » . . . الاَية .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر في قوله : سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وَزَفِيرا قال : أخبرني المنصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، قال : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبيّ إلا خرّ ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه ، فيقول : يا ربّ لا أسألك اليوم إلا نفسي .
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدّورقي ، قال : حدثنا عُبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : «إن الرجل ليُجَرّ إلى النار ، فتنزوي وينقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن ما لك ؟ فتقول : إنه ليستجير مني فيقول : أرسلُوا عبدي وإن الرجل ليُجَرّ إلى النار ، فيقول : يا ربّ ما كان هذا الظنّ بك فيقول : فما كان ظنك ؟ فيقول : أن تسعَني رحمتك قال : فيقول أرسلوا عبدي وإن الرجل ليجَرّ إلى النار فتشهق إليه النار شُهوق البغلة إلى الشعير وتَزِفْر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف » .