ثم بين - سبحانه - أحوالهم بعد ذلك فقال : { حتى إِذَا جَآءُوا } أى : حتى إذا ما وصلوا إلى موقف الحساب قال الله - تعالى - لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي } الدالة على وحدانيتى وعلى أن الآخرة حق . وأن الحساب حق وجملة ، { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } حالية ، لزيادة التشنيع عليهم . والتجهيل لهم .
أى : أكذبتم بآياتى الدالة على أن البعث حق ، دون أن تتفكروا فيها ، ودون أن يكون عندكم أى علم أو دليل على صحة هذا التكذيب .
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التوبيخ لهم ، توبيخا أشد وأعظم ، فقال : { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
أى : إذا لم تكونوا قد كذبتم بآياتى ، فولوا لنا ماذا كنتم تعملون ، فإننا لا يخفى علينا شىء منها ، ولا نعاقبكم إلا عليها .
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوا } أي : أوقفوا بين يدي الله عز وجل ، في مقام المساءلة ، { قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : ويسألون{[22189]} عن اعتقادهم ، وأعمالهم
{ حتى إذا جاءووا } إلى المحشر . { قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما } الواو للحال أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب ، أو للعطف أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها . { أما ذا كنتم تعملون } أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ، وهو للتبكيت إذ لم يفعوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك .
ثم أخبر تعالى عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ { أكذبتم } الآية ، ثم قال { أماذا كنتم تعملون } على معنى استيفاء الحجج ، أي إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها ، وقرأ أبو حيوة «أماذا كنتم تعملون » بتخفيف الميم{[9083]} .
والقول في { حتى إذا جاءو } كالقول في { حتى إذا أتوا على واد النمل } [ النمل : 18 ] ولم يذكر الموضع الذي جاءوه لظهوره وهو مكان العذاب ، أي جهنم كما قال في الآية { حتى إذا ما جاءوها } [ فصلت : 20 ] .
و { حتى } في { حتى إذا جاءو } ابتدائية . و { إذا } الواقعة بعد { حتى } ظرفية والمعنى : حتى حين جاءوا .
وفعل { قال أكذبتم بآياتي } هو صدر الجملة في التقدير وما قبله مقدم من تأخير للاهتمام . والتقدير : وقال أكذبتم بآياتي يوم نحشر من كل أمة فوجاً وحين جاءوا . وفي { قال } التفات من التكلم إلى الغيبة .
وقوله { أكذبتم بآياتي } قول صادر من جانب الله تعالى يسمعونه أو يبلغهم إياه الملائكة .
والاستفهام يجوز أن يكون توبيخياً مستعملاً في لازمه وهو الإلجاء إلى الاعتراف بأن المستفهم عنه واقع منهم تبكيتاً لهم ، ولهذا عطف عليه قوله { أم ماذا كنتم تعملون } . j فحرف { أم } فيه بمعنى ( بل ) للانتقال ومعادل همزة الاستفهام المقدرة محذوف دل عليه قوله { ماذا كنتم تعملون } . والتقدير : أكذبتم بآياتي أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم توقنوا فماذا كنتم تعملون في مدة تكرير دعوتكم إلى الإسلام . ومن هنا حصل الإلجاء إلى الاعتراف بأنهم كذبوا .
ومن لطائف البلاغة أنه جاء بالمعادل الأول مصرحاً به لأنه المحقق منهم فقال { أكذبتم بآياتي } وحذف معادله الآخر تنبيهاً على انتفائه كأنه قيل : أهو ما عهد منكم من التكذيب أم حدث حادث آخر ، فجعل هذا المعادل متردداً فيه ، وانتقل الكلام إلى استفهام . وهذا تبكيت لهم .
قال « في الكشاف » : « ومثاله أن تقول لراعيك وقد علمت أنه راعي سوء : أتأكل نعمي أم ماذا تعمل بها ، فتجعل ما ابتدأت به وجعلته أساس كلامك هو الذي صح عندك من أكله وفساده وترمي بقولك : أم ماذا تعمل بها ، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل لتبهته . ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً وتكون { أم } متصلة وما بعدها هو معادل الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل : « أكذبتم أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم تتبعوا آياتي » .
وجملة { ولم تحيطوا بها علماً } في موضع الحال ، أي كذبتم دون أن تحيطوا علماً بدلالة الآيات . وانتصب { علماً } على أنه تمييز نسبة { تحيطوا } ، أي لم يحط علمكم بها ، فعدل عن إسناد الإحاطة إلى العلم إلى إسنادها إلى ذوات المخاطبين ليقع تأكيد الكلام بالإجمال في الإسناد ثم التفصيل بالتمييز .
وإحاطة العلم بالآيات مستعملة في تمكن العلم حتى كأنه ظرف محيط بها وهذا تعيير لهم وتوبيخ بأنهم كذبوا بالآيات قبل التدبر فيها .
و { ماذا } استفهام واسم إشارة وهو بمعنى اسم الموصول إذا وقع بعد ( ما ) . والمشار إليه هو مضمون الجملة بعده في قوله { كنتم تعملون } . ولكون المشار إليه في مثل هذا هو الجملة صار اسم الإشارة بعد الاستفهام في قوة موصول فكأنه قيل : ما الذي كنتم تعملون ؟ فذلك معنى قول النحويين : إن ( ذا ) بعد ( ما ) و ( من ) الاستفهاميتين يكون بمعنى ( ما ) الموصولة فهو بيان معنىً لا بيان وضع .