فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بِـَٔايَٰتِي وَلَمۡ تُحِيطُواْ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (84)

{ حتى إِذَا جَاءُوا } إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخاً وتقريعاً : { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي } التي أنزلتها على رسلي ، وأمرتهم بإبلاغها إليكم { و } الحال ، أنكم { لَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } بل كذبتم بها بادىء بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها ، ولا مستدلين على صحتها ، أو بطلانها تمرّداً ، وعناداً ، وجرأة على الله وعلى رسله ، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ ؛ لأن من كذب بشيء ، ولم يحط به علماً فقد كذب في تكذيبه ، ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف ، وسوء الفهم ، وقصور الإدراك ، ومن هذا القبيل من تصدّى لذمّ علم من العلوم الشرعية ، أو لذمّ علم هو مقدّمة من مقدّماتها ، ووسيلة يتوسل بها إليها ، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها ، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها ، وهي اثنا عشر علماً ، وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية ، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله ، وسنة رسوله ، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية ، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه ، ولا يعلم به ، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره ، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول ، وركاك الأديان ، ورعاع المتلبسين بالعلم زوراً وكذباً .

و " أم " في قوله : { أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } هي المنقطعة ، والمعنى : أم أيّ شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها ، والتفكر في معانيها ؟ وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم .