قوله تعالى : { وأن إلى ربك المنتهى } أي : منتهى الخلق ومصيرهم إليه ، وهو مجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد الشيباني أنبأنا محمد بن سليمان بن الفتح الحنبلي ، حدثنا علي بن محمد المصري ، أنبأنا أبو إسحاق بن منصور الصعدي ، أنبأنا العباس بن زفر ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :{ وأن إلى ربك المنتهى } قال : لا فكرة في الرب ، وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق . فإنه لا تحيط به الفكرة " .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته ورحمته ، فقال - تعالى - : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } . أى : وأن إلى ربك وحده - لا إلى غيره - انتهاء الخلق ومرجعهم ومصيرهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
فقوله : { المنتهى } : مصدر بمعنى الانتهاء ، والمراد بذلك مرجعهم إليه - تعالى - وحده ،
فلا طريق إلا الطريق الذي ينتهي إليه . ولا ملجأ من دونه . ولا مأوى إلا داره : في نعيم أو جحيم . . ولهذه الحقيقة قيمتها وأثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوره فحين يحس أن المنتهى إلى الله منتهى كل شيء وكل أمر . وكل أحد . فإنه يستشعر من أول الطريق نهايته التي لا مفر منها ولا محيص عنها . ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة ؛ أو يحاول في هذا ما يستطيع . ويظل قلبه ونظره معلقين بتلك النهاية منذ أول الطريق !
يقول تعالى [ مخبرا ] {[27709]} { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } أي : المعاد يوم القيامة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود ، إني رسول الله إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله ، إلى الجنة أو إلى النار .
وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } ، قال : لا فكرةَ في الرب {[27710]} .
قال البغوي : وهذا مثل ما رُوي عن أبي هريرة مرفوعا : " تفكَّروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنه لا تحيط {[27711]} به الفِكْرة " .
كذا أورده ، وليس بمحفوظ بهذا اللفظ {[27712]} ، وإنما الذي في الصحيح : " يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله وَلْيَنْتَه " {[27713]} .
وفي الحديث الآخر الذي في السنن : " تفكروا في مخلوقات الله ، ولا تفكروا{[27714]} في ذات الله ، فإن الله خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مَسِيرة ثلاثمائة سنة " أو كما قال لا-{[27715]} .
و : { المنتهى } يحتمل أن يريد به الحشر ، والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار ، ويحتمل أن يريد ب { المنتهى } : الجنة أو النار ، فهو منتهى على الإطلاق ، لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته .
وقال أبي بن كعب قال النبي عليه السلام في قوله تعالى : { وأن إلى ربك المنتهى }{[10726]} ( لا فكرة في الرب ){[10727]} . وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا ذكر الرب فانتهوا » . وقال أبو هريرة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى أصحابه فقال : «فيم أنتم » قالوا : نتفكر في الخالق ، فقال : «تفكروا في الخلق ، لا تتفكروا في الخالق ، فإنه لا تحيط به الفكرة » ***الحديث{[10728]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن هذا الإنسان الذي قال له، فقال: {وأن إلى ربك المنتهى} ينتهي إليه بعمله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وأنّ إلى رَبّكَ المُنْتَهَى "يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وأن إلى ربك يا محمد انتهاء جميع خلقه ومرجعهم، وهو المجازي جميعهم بأعمالهم، صالحهم وطالحهم، ومحسنهم ومسيئهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأن إلى ربك المُنتهى} سمّى الآخرة منتهًى ومصيرا ورجوعا. ويحتمل أي إلى جزاء ربك تنتهي...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
أي منتهى الخلق ومصيرهم، وهو مجازيهم بأعمالهم، وقيل: منه ابتداء المنّة وإليه انتهاء الآمال...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(وان إلى ربك المنتهى) معناه وأن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الأمور، والمنتهى هو المصير إلى وقت بعد الحال الأولى عن حال مثلها، فللتكليف منتهى، وليس للجزاء في دار الآخرة منتهى. والمنتهى قطع العمل إلى حال أخرى، والمنتهى والآخر واحد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و: {المنتهى} يحتمل أن يريد به الحشر، والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار، ويحتمل أن يريد ب {المنتهى}: الجنة أو النار، فهو منتهى على الإطلاق، لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{المنتهى} أي الانتهاء برجوع الخلائق حساً بالبعث ومعنى بالعمل والعلم، وإسناد الأمور وإرسال الآمال، ومكان رجوعهم وزمانه كما كان منه المبتدأ، أكد ذلك خلقاً لذلك كله وحساباً عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلا طريق إلا الطريق الذي ينتهي إليه. ولا ملجأ من دونه. ولا مأوى إلا داره: في نعيم أو جحيم.. ولهذه الحقيقة قيمتها وأثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوره فحين يحس أن المنتهى إلى الله منتهى كل شيء وكل أمر. وكل أحد. فإنه يستشعر من أول الطريق نهايته التي لا مفر منها ولا محيص عنها. ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة؛ أو يحاول في هذا ما يستطيع. ويظل قلبه ونظره معلقين بتلك النهاية منذ أول الطريق!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القول في موقعها كالقول في موقع جملة {وأن سعيه سوف يرى} [النجم: 40] سواءً، فيجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة {وأن سعيه سوف يرى} فتكون تتمة لما في صحف موسى وإبراهيم، ويكونَ الخطاب في قوله: {إلى ربك} التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب والمخاطب غيرُ معينّ فكأنه قيل: وأن إلى ربه المنتهى...
ويجوز أنها ليست مما اشتملت عليه صحف موسى وإبراهيم ويكون عطفُها عطفَ مفرد على مفرد، فيكون المصدر المنسبك من {أنّ} ومعمولها مدخولاً للباء، أي لم ينبأ بأن إلى ربك المنتهى، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وعليه فلا نتطلب لها نظيراً من كلام إبراهيم عليه السلام. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه المحض الذي لا تلابسه أحكامٌ هي في الظاهر من تصرفات المخلوقات مما هو شأن أمور الدنيا، فالكلام على حذف مضاف دل عليه السياق. والتعبير عن الله بلفظ {ربك} تشريف للنبيء صلى الله عليه وسلم وتعريض بالتهديد لمكذبيه لأن شأن الرب الدفاع عن مربوبه. وفي الآية معنى آخر وهو أن يكون المنتهى مجازاً عن انتهاء السير، بمعنى الوقوف، لأن الوقوف انتهاء سير السائر، ويكون الوقوف تمثيلاً لحال المطيع لأمر الله تشبيهاً لأمر الله بالحَد الذي تحدد به الحَوائط وفي الآية معنى ثالث وهو انتهاء دلالة الموجودات على وجودِ الله ووحدانيتِه...
إلى ربك المرجع، وإلى ربك المصير والمنتهى، والآية فيها أسلوب قَصْر بتقديم الخبر على المبتدأ {إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ} [النجم: 42] إلى ربك وحده دون سواه تنتهي الأمور في الآخرة، فالدنيا ليست هي نهاية المطاف، وليست هي الغاية، وهذه مسألة يُقِرُّ بها العقل قبل الشرع.
فلو كانت الدنيا هي الغاية وهي النهاية، لكانت الحظوة لأهل الشهوات ولأهل الظلم والتعدِّي، لأنهم حققوا ما يريدون في الدنيا وعاشوها بالطول والعرض، ففازوا بمتاع الدنيا، ولم يعاقبوا عليه ولم يحاسبوا.
إذن: العقل يقول: لا لابدَّ أن هناك يوماً للحساب وللقصاص، العدل يقتضي ذلك.
ولو أيقن الناسُ بهذه الآية وفهموا هذا المعنى لاستقامتْ أمورهم، ولفكَّر الإنسانُ مرة وألف مرة قبل أنْ يُقدم على معصية الله أو ظلم الخَلْق، ولعمل حساباً لهذا المنتهى الذي لابدَّ له أنْ ينتهي إليه.
وهذه الآية أيضاً تدلنا على أن العبد وإنْ خلقه ربه مختاراً يؤمن أو يكفر، يطيع أو يعصي، فإن هناك منطقة أخرى قهرية لا اختيار له فيها، وهل لك اختيار في غِناك أو فقرك؟ صحتك أو سقمك؟ حياتك أو موتك؟
إذن: مهما كنتَ حراً ومختاراً فلا غنى لك عن ربك، ولا ملجأ لك غيره، فلا تتمرد عليه بالعصيان، لأن منتهاك إليه في الآخرة للحساب، ومنتهاك أيضاً في أمور حياتك الدنيوية إليه وحده، فأنت في قبضة قدره لا تستطيع الانفلات منها.
فالذي يتمرّد على منهج الله أيستطيع أنْ يتمرد على المرض إنْ أصابه؟ أيستطيع أنْ يمتنع عن ملَك الموت إنْ جاء أجله، إذن: لك منتهى في الدنيا قبل منتهى الآخرة.