اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ} (42)

قوله [ تَعَالَى{[53719]} : ] { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } العامة على فتح همزة «أَنَّ » وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ .

وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء{[53720]} ومعنى الآية : إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال{[53721]} . وروى أبو هريرةَ مرفوعاً : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ{[53722]} .

قال القرطبيُّ : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ »{[53723]} . ولهذا أحسن من قال ( رحمة الله عليه{[53724]} ورضاه ) ( شعْراً ){[53725]} :

لاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ *** فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ

وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها *** وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ{[53726]}

وقيل : المراد من هذه الآية التوحيد .

وفي المخاطب وجهان :

أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل .

والثاني : أنه خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في «المُنْتَهَى » للعهد الموعود في القرآنِ .

وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى .

فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى ، وعلى الأول يكون «مُبْتدًى » .

فالجواب : منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده{[53727]} .

قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } ( أضحك وأبكى ){[53728]} ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع ، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه .

و«أَضْحَك وَأَبْكَى » لا مفعول لهما في هذا الموضع ؛ لأنها{[53729]} مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور ، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى{[53730]} .

فصل

اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان ، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ{[53731]} أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر ، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم ، فإِنهم يقولون : سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال .

ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا : لقوة التعجب وهو باطل ، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك . وقيل : لقوة الفرح ؛ وليس كذلك ؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم ( شعراً )

هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي *** مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي{[53732]}

وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ .

وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب .

فصل

إِذا قيل : بأن المراد بقوله تعالى : { إلى رَبِّكَ المنتهى } إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى ، فإن من الفلاسفة من يقول : بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : بأنه موجب لا قادر فقال تعالى : هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي ، والموت والحياة ، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة ، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل .

وإن قيل : بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة{[53733]} .

فصل

هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار ، وقال الضحاك : أضحك الأرضَ بالنبات ، وأبكى السماءَ بالمَطَر ، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم{[53734]} : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء{[53735]} .

فصل

«روى مسلمٌ عن عائشةَ - ( رضي الله عنها ) {[53736]} - قالت : «والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله ، ولكنه قال : إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً ، وإن الله لهو أضحك وبكى ، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى »{[53737]} .

وعنها قالت : «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد : إن الله يقول لك : إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول : هُوَ أضحك وأبكى أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء{[53738]} » .

وقال بَسَّامُ بن عبد الله{[53739]} : أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم ، وأنشد [ رحمه الله ] {[53740]} :

السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق *** وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ

يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا *** وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ{[53741]}

قيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات . وقيل : إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك . وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المَقْدِسيُّ{[53742]} : أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ ؟ فقال : ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ .


[53719]:سقط من أ الأصل.
[53720]:وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر 8/128.
[53721]:في القرطبي: الأمان.
[53722]:البغوي والخازن في تفسيريهما 6/269 و270.
[53723]:الجامع لأحكام القرآن 17/116.
[53724]:زيادة من أ.
[53725]:زيادة من ب فقط.
[53726]:من الطويل ومجهول قائلهما. وجاء بهما المؤلف استئناسا على أن الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وانظر القرطبي 17/116 والسراج المنير 3/137.
[53727]:بالمعنى من تفسير الإمام 15/19.
[53728]:زيادة للسياق.
[53729]:كذا في النسختين والأحسن: لأنهما مسبوقتان.
[53730]:الرازي 15/819.
[53731]:كذا في الرازي وفي ب الطبائعيين.
[53732]:من تام الكامل. لوم أعرف قائله. وانظر السراج المنير 4/138.
[53733]:بالمعنى كل هذا من تفسير الإمام 15/19 و20.
[53734]:سبق التعريف به.
[53735]:البغوي والخازن في تفسيرهما 6/270.
[53736]:زيادة من أ.
[53737]:روي: "لا والله ما قال رسول الله قط".
[53738]:وانظر القرطبي 17/11 وصحيح مسلم.
[53739]:القرطبي المرجع السابق.
[53740]:زيادة من أ.
[53741]:بيتان من البسيط لم أعرف منشدهما وجاء بهما المؤلف للمعنى المسوق وهي ضحك الأسنان وبكاء القلوب وانظر القرطبي 17/117 والسراج المنير 4/137.
[53742]:طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، سمع من المقومي ثم رحل إلى همذان وتوفي سنة 566، وانظر شذرات الذهب 4/217.