قوله [ تَعَالَى{[53719]} : ] { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } العامة على فتح همزة «أَنَّ » وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ .
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء{[53720]} ومعنى الآية : إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال{[53721]} . وروى أبو هريرةَ مرفوعاً : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ{[53722]} .
قال القرطبيُّ : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ »{[53723]} . ولهذا أحسن من قال ( رحمة الله عليه{[53724]} ورضاه ) ( شعْراً ){[53725]} :
لاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ *** فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها *** وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ{[53726]}
وقيل : المراد من هذه الآية التوحيد .
أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل .
والثاني : أنه خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في «المُنْتَهَى » للعهد الموعود في القرآنِ .
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى .
فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى ، وعلى الأول يكون «مُبْتدًى » .
فالجواب : منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده{[53727]} .
قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } ( أضحك وأبكى ){[53728]} ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع ، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه .
و«أَضْحَك وَأَبْكَى » لا مفعول لهما في هذا الموضع ؛ لأنها{[53729]} مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور ، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى{[53730]} .
اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان ، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ{[53731]} أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر ، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم ، فإِنهم يقولون : سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال .
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا : لقوة التعجب وهو باطل ، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك . وقيل : لقوة الفرح ؛ وليس كذلك ؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم ( شعراً )
هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي *** مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي{[53732]}
وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ .
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب .
إِذا قيل : بأن المراد بقوله تعالى : { إلى رَبِّكَ المنتهى } إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى ، فإن من الفلاسفة من يقول : بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : بأنه موجب لا قادر فقال تعالى : هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي ، والموت والحياة ، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة ، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل .
وإن قيل : بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة{[53733]} .
هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار ، وقال الضحاك : أضحك الأرضَ بالنبات ، وأبكى السماءَ بالمَطَر ، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم{[53734]} : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء{[53735]} .
«روى مسلمٌ عن عائشةَ - ( رضي الله عنها ) {[53736]} - قالت : «والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله ، ولكنه قال : إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً ، وإن الله لهو أضحك وبكى ، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى »{[53737]} .
وعنها قالت : «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد : إن الله يقول لك : إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول : هُوَ أضحك وأبكى أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء{[53738]} » .
وقال بَسَّامُ بن عبد الله{[53739]} : أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم ، وأنشد [ رحمه الله ] {[53740]} :
السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق *** وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا *** وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ{[53741]}
قيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات . وقيل : إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك . وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المَقْدِسيُّ{[53742]} : أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ ؟ فقال : ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.