الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ} (42)

وقوله سبحانه : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } أي : مُنْتَهَى الخلق ومصيرُهم ، اللَّهمَّ أطلعنا على خيرك بفضلك ، ولا تفضحْنا بين خلقك ، وجُدْ علينا بسترك في الدارين وَحُقَّ لعبد يعلم أَنَّه إلى ربه منتهاه ؛ أَنْ يرفض هواه ؛ ويزهدَ في دنياه ، ويُقْبِلَ بقلبه على مولاه ؛ ويقتدي بنبيٍّ فَضَّلَهُ اللَّهُ على خلقه وارتضاه ؛ ويتأمل كيف كان زهده صلى الله عليه وسلم في دنياه ؛ وإِقباله على مولاه ؛ قال عياض في «شفاه » : وأما زُهْدُهُ صلى الله عليه وسلم ، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي ، وحَسْبُكَ من تقلُّله منها وإِعراضِهِ عَنْهَا وعن زَهْرَتِها ، وقد سِيقَتْ إليه بحذافيرها ، وترادفَتْ عليه فُتُوحَاتُهَا أَنَّهُ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ ، وهو يدعو ، ويقول : «اللَّهُمَّ اجعل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً » .

وفي «صحيح مسلم » عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : " ما شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعاً حتى مضى لِسَبِيلِهِ " . وعنها رضي اللَّه عنها قالت : " لَمْ يَمْتَلِئ جَوْفُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِبَعاً قَطُّ ، وَلَمْ يَبُثَّ شكوى إلى أَحَدٍ ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغنى ، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ ، فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِهِ ، وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغْدِ عَيْشِهَا ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ ؛ رَحْمَةً مِمَّا أرى بِهِ ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي على بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجُوعِ ، وَأَقُولُ : نَفْسِ لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ ! فَيَقُولُ : يَا عَائِشَةُ ، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إخْوَانِي مِنْ أُولي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذا ، فَمَضَوْا على حَالِهِمْ ، فَقَدِمُوا على رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحِيي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي أنْ يُقَصِّرَ بِي غَداً دُونَهُمْ ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بإخْوَانِي وأَخِلاَّئِي ، قَالَتْ : فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إلاَّ أَشْهُراً حتى تُوُفِّيَ صلواتُ اللَّهُ وسَلاَمُهُ عليه " انتهى . وباقي الآية دَلالة على التوحيد واضحة .