ثم بين - سبحانه - الصفات التي يتميز بها المؤمنين الصادقون ، عن غيرهم من ضعاف الإِيمان ، فقال - تعالى - : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين . . . رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } .
أى : ليس من شأن المؤمنين الصادقين أن يستأذنوك - يا محمد - في { أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه . . وإنما الذي من شأنهم وعادتهم - كما أثبته واقعهم وتاريخهم - أن ينفروا خفافا وثقالا عندما يدعو الداعى إلى الجهاد ، دون أن ينتظروا إذنا من أحد .
فهم لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، يسارعون إلى الجهاد بقلوب مشتاقة إليه ، وبنفوس تتمنى الموت عن طريقه .
وهم في ذلك ممتلثلون لقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : " من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه ، كلما سمع هيعة - أى صيحة - وفزعا طار على متنه يبتغنى القتل أو الموت في مظانه " .
وقوله : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } تحريض لهم على الاتصاف بهذه الصفة الكريمة ، وهى صفة التقوى .
والمراد بالعلم هنا لازمه ، وهو مجازاتهم بالثواب الجزيل على تقواهم .
أى : والله - تعالى - عليهم بهؤلاء الذين ملأت خشية قلوبهم . وسيثيبهم على ذلك ثوابا يرضيهم .
هذا ، وقد استنبط العلماء من هذه الاية أنه ينبغى على المؤمن أن يقوم بأداء الأعمال الحسنة ، والأفعال الجميلة بدون تردد أو استئذان .
قال صاحب الانتصاف عند تفسيره لهذه الآية : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدى له معروفا ، ولا بالمضيف ولا يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما ؛ فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره . وصلوات الله وسلامه على خليله إبراهيم ، فقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضايفة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله - تعالى - : بهذه الخلة الجميلة ، فقال : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . . . } أى : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به . .
وقال صاحب المنار : وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغى الاستئذان في أداء شئ من الواجبات ، ولا في الفضائل والفواضل من العادات ، كقرى الضيف ، وإغاثة الملهوف ، وسائر عمل المعروف .
وبعجبنى قول بعض العلماء ما معناه : من قال لك أتأكل ؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة مثلا ؟ فقل له : لا فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك .
( لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واللّه عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر وارتابت قلوبهم ، فهم في ريبهم يترددون ) .
وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ . فالذين يؤمنون باللّه ، ويعتقدون بيوم الجزاء ، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ؛ ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل اللّه بالأموال والأرواح ؛ بل يسارعون إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهم اللّه ، طاعة لأمره ، ويقيناً بلقائه ، وثقة بجزائه ، وابتغاء لرضاه . وإنهم ليتطوعون تطوعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثهم ، فضلاً عن الإذن لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يستأذنك} في القعود {الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر}، يعني الذين يصدقون بتوحيد الله، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن، {أن يجاهدوا} العدو من غير عذر، {بأموالهم وأنفسهم} كراهية الجهاد، {والله عليم بالمتقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا إعلام من الله نبيه صلى الله عليه وسلم سِيما المنافقين أن من علاماتهم التي يعرفون بها تخلفهم عن الجهاد في سبيل الله باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروج معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة. يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد لا تأذننّ في التخلف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك لمن استأذنك في التخلف من غير عذر، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فأما الذي يصدّق بالله ويقرّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذنك في ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه. "وَاللّهُ عَلِيمٌ بالمُتّقِينَ "يقول: والله ذو علم بمن خافه فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه، وغير ذلك من أمره ونهيه... عن ابن عباس، قوله: لا يَسْتأذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر، وعذر الله المؤمنين، فقال: "لم يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاستئذان: طلب الإذن من الآذن. ومعنى قوله "أن يجاهدوا "فيه حذف وتقديره لأن لا يجاهدوا بحذف (لا) لأن ذمهم قد دل عليه -هذا قول أبي علي الجبائي- وقال الحسن: تقديره كراهية أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم...
وقوله "والله عليم بالمتقين" إخبار منه تعالى بأنه يعلم من يتقي معصية الله ويخاف عقابه، ومن لا يتقيه...
فإن قيل: أي الجهادين أفضل: أجهاد السيف أم جهاد العلم؟ قيل: هذا بحسب الحاجة اليه والمصلحة فيه، وكذلك الجهاد بالمال والجهاد بالنفس. وإنما يقع التفاضل مع استواء الأحوال إلا بمقدار الخصلة الزائدة من خصال الفضل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المخلصُ في عقده غيرُ مُؤثِرٍ شيئاً على أمره، ولا يدَّخر مستطاعاً في استفراغ وُسْعِه، وبَذْلِ جُهْدِه، ومقاساة كَدِّه، واستعمال جِدِّه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبداً، ولنجاهدنّ أبداً معه بأموالنا وأنفسنا. ومعنى {أَن يجاهدوا} في أن يجاهدوا أو كراهة أن يجاهدوا. {والله عَلِيمٌ بالمتقين} شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فاته صلى الله عليه وسلم معرفتهم بهذا الطريق، شرع العالم بما في الضمائر يصفهم له بما يعوض عن ذلك، فقال على طريق الجواب للسؤال: {لا يستأذنك} أي يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه {الذين يؤمنون بالله} أي يجددون الإيمان كل وقت حقاً من أنفسهم بالملك الذي له صفات الكمال {واليوم الآخر} أي الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب {أن} أي في أن {يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه... ولما كان التقدير: فمن اتصف بذلك فاعلم أنه متق بأخبار الله، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عليم بالمتقين*} أي الذين يخافون الله كلهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... ذكر البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والظاهر أن مراده لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بمثل ما في هذه السورة من التفصيل، كما قال الله له في الذين مردوا على النفاق {لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة: 101]، وستأتي في هذا السياق. إذ من المعلوم أن ذكر المنافقين وبعض صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم جاءت في عدة سور نزلت قبل سورة براءة: منها سور المنافقين والأحزاب والنساء والأنفال والقتال والحشر، وأما سورة براءة فهي الفاضحة لهم والكاشفة لجميع أنواع نفاقهم الظاهرة والباطنة، وهذه الآيات أول السياق في هذا البيان للتفرقة بينهم وبين المؤمنين في أمر القتال، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بعد نزولها. قال عزَّ وجلَّ: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} هذا نفي للشأن يراد به بيان الواقع في نفسه، فلا يلاحظ في الفعل فيه الزمان الحاضر أو المستقبل الذي وضع له المضارع؛ بل يشملهما كما يشمل الماضي، كما تقول: الصائم لا يغتاب الناس، والذي يزكي لا يسرق، أي هذا شأن كل منهما، فالمعنى أنه ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم القتال، واليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الأكمل على الأعمال، ولا من عادتهم أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا عرض المقتضي له، لأن هذا من لوازم الإيمان التي لا تتوقف على الاستئذان {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15]، وإذا لم يكن من شأنهم أن يستأذنوا في الجهاد بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان لما تقدم آنفا، بل هم يستعدون له في وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل من استطاع ذلك منهم، فهل يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه، بعد إعلان النفير العام له؟ كلا إن أقصى ما قد يقع من بعضهم التثاقل والبطء في مثل هذا السفر البعيد. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يستأذنك هؤلاء المؤمنون في القعود والتخلف كراهة أن يجاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد لا يكرهه المؤمن الصادق الذي يرجو الله والدار الآخرة، ويعلم أن عاقبة الجهاد الفوز بإحدى الحسنيين: الغنيمة والنصر، أو الشهادة والأجر، وإنما قد يستأذن صاحب العذر الصحيح منهم وهم الذين قبل الله عذرهم وأسقط الحرج عنهم في الآيتين [91 و92]... {والله عليم بالمتقين} له باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه، ونيتهم فيه، وأنه ليس من شأنهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال، فهو يجزيهم وصفهم، وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات، كقرى الضيوف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف، ويعجبني قول بعض العلماء ما معناه: من قال لك أتأكل؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة أو الحلوى مثلا؟ فقل له لا، فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ. فالذين يؤمنون باللّه، ويعتقدون بيوم الجزاء، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ ولا يتلكؤون في تلبية داعي النفرة في سبيل اللّه بالأموال والأرواح؛ بل يسارعون إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهم اللّه، طاعة لأمره، ويقيناً بلقائه، وثقة بجزائه، وابتغاء لرضاه. وإنهم ليتطوعون تطوعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثهم، فضلاً عن الإذن لهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة واقعة موقع البيان لجملة {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. وموقع التعليل لجملة {لم أذنت لهم} [التوبة: 43] أو هي استئناف بياني لما تثيره جملة {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43] والاعتبارات متقاربة ومآلها واحد. والمعنى: إنّ شأن المؤمنين الذين استنفروا أن لا يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجهاد، فأمّا أهل الأعذار: كالعُمي، فهم لا يستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا الذين تخلّفوا من المؤمنين فقد تخلّفوا ولم يستأذنوا في التخلّف، لأنّهم كانوا على نية اللحاق بالجيش بعد خروجه. والاستئذان: طلب الإذن، أي في إباحة عمل وترك ضدّه، لأنّ شأن الإباحة أن تقتضي التخيير بين أحد أمرين متضادّين. والاستئذان يُعدّى ب (في). فقوله: {أن يجاهدوا} في محلّ جرّ ب (في) المحذوفة، وحذف الجارّ مع {أنْ} مطّرد شائع. ولمّا كان الاستئذان يستلزم شيئين متضادّين، كما قلنا، جازَ أن يقال: استأذنتُ في كذا واستأذنت في ترك كذا. وإنّما يُذكر غالباً مع فعل الاستئذان الأمر الذي يَرغَب المستأذنُ الإذنَ فيه دون ضدّه وإن كان ذكر كليهما صحيحاً. ولمّا كانَ شأن المؤمنين الرغبة في الجهاد كان المذكور مع استئذان المؤمنين، في الآية أن يجاهدوا دون أن لا يجاهدوا، إذ لا يليق بالمؤمنين الاستئذان في ترك الجهاد، فإذا انتفى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا ثبت أنّهم يجاهدون دون استئذان، وهذا من لطائف بلاغة هذه الآية التي لم يعرّج عليها المفسّرون وتكلّفوا في إقامة نظم الآية. وجملة {والله عليم بالمتقين} معترضة لفائدة التنبيه على أنّ الله مطّلع على أسرار المؤمنين إذ هم المراد بالمتّقين كما تقدّم في قوله في سورة البقرة (2، 3) {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب.}...
يلفتنا سبحانه: أن الذين طلبوا ذلك الإذن بالقعود فضحوا أنفسهم، فقد استأذنوا بعد مجيء الأمر من الله {انفروا خفافا وثقالا}، وكل مؤمن بالله واليوم الآخر – في تلك الظروف – لا يمكن أن يتخلف عن الجهاد في سبيل الله. والمؤمن الحق لن يقدم الأعذار ليتخلف، حتى وإن كانت عنده أعذار حقيقية، بل سيحاول إخفاءها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج معه مجاهدا بل إنه يسرع إلى الجهاد، حتى ولو كان الله قد أعطاه رخصة بعدم الجهاد. وهذه الآية – إذن – تحمل التوبيخ للذين استأذنوا، بل وتحمل أكثر من ذلك، فالمؤمن إذا دُعي للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمر من الله لا يكون تفكيره كالشخص العادي؛ لأن الإنسان في الأمور العادية إذا طُلب منه شيء أدار عقله وفكره؛ هل يفعله أو لا يفعله؟ ولكن المؤمن إذا دُعي للجهاد في سبيل الله، ومع رسول الله، لا يدور في عقله الجواب، ولا تأتي كلمة "لا "على خاطره أبدا، بل ينطلق في طريقه إلى الجهاد. وكيف يكون الأمر بالخروج إلى القتال صادرا من الله، ثم يتحجج هؤلاء بالاستئذان بعدم الخروج؟. إذن: فمجرد الاستئذان دليل على اهتزاز الإيمان في قلوبهم؛ لأن الواحد منهم في هذه الحالة قد أدار المسألة في عقله، يخرج للجهاد أو لا يخرج، ثم اتخذ قرارا بالتخلف. والغريب، هؤلاء استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم الخروج، مع أن أمر الجهاد صادر من الله سبحانه وتعالى، ولم تكن المسألة تحتاج إلى أن يأذن لهم الرسول بالتخلف. إلا أنهم كانوا يبحثون عن عذر يحتمون به... والإيمان يفترض يقينا ثابتا؛ لأن التردد يعني الشك، وهو الذهاب والرجوع على التوالي، وهو يعني أن صاحب السؤال متردد؛ لأن طرفي الحكم عنده سواء. إذن: فالمؤمنون بالله لا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دُعوا إلى الجهاد؛ لأن مجرد الاستئذان في الخروج إلى الجهاد لا يليق بمؤمن. وقوله تعالى: {والله عليم بالمتقين} أي: أن الله يعلم ما في صدورهم من تقوى، فهم إنْ خدعوا الناس، فلن يستطيعوا خداع الله؛ لأنه مُطَّلع على ما تُخفي الصدور.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الخط الفاصل بين سلوك المؤمنين وغير المؤمنين:
وتنطلق الآيات لتوضّح الخط الفاصل بين سلوك المؤمنين وسلوك غير المؤمنين في القضايا التي تمثّل الإخلاص لله، في ما يتصل بقضية المصير في مسألة المواجهة بين الكفر والإيمان في المعركة الفاصلة، ليكون ذلك هو الميزان الذي توزن به الأشياء في تقييم الأشخاص والمواقف. {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} لأنهم يعيشون الإخلاص لله، والطاعة لأوامره، والمحافظة على دينه، والرغبة في ثوابه، والحصول على رضاه، ولذلك فإنهم يتحركون في مواقف الجهاد من هذا الموقع، فلا يلتمسون العذر في التخلف عنه، بل يعملون على إزالة الموانع في الانطلاق نحوه، لأنهم لا يرونه مشكلةً شخصيّةً لهم، بل حلاً لمشكلة الإسلام في صراعه مع الكفر، مما يرون فيه المسؤولية الكبيرة التي تفرض عليهم أن يقدّموا أموالهم وأنفسهم قرباناً لله في هذا السبيل، الذي تتجسد فيه خطوط التقوى، وحركيّتها وفاعليتها في حياة الفرد والأمّة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} بسبب ما يعلمه من صدق الإخلاص في قلوبهم، ودقّة الالتزام في سلوكهم، وصفاء العقيدة في أرواحهم...