روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَا يَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} (44)

{ لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر } تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة والسلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في { أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ } فإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الاذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه ، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه » ونفى العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار نحو فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم ، فالكلام محمول على نفي الاستمرار ، ولو حمل على استمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فيكون المعنى عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد ، ومثل هذا قول الحماسي :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

قيل : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفاً ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً فإن الاستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره ، ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيىء للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذريات : 26 ] أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به ، وجوز أن يكون متعلق الاستئذان محذوفاً و { أَن يجاهدوا } بتقدير كراهة أن يجاهدوا ، والمحذوف فيل : التخلف عليه ، والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد ، والنفي متوجه للاستئذان والكراهة معا ، وقال بعض : إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمراً خفيا لا يوقف عليه بادىء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمراً ظاهراً مقرراً .

وقيل : الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا ، وتعقب بأنه مبني على أن الاستئذان في الجهاد بما يكون لكراهة ، ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل ، ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة ، لو سلم فالذي نفى عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر { والله عَلِيمٌ بالمتقين } شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولاً أولياً وعدة لهم بالثواب الجزيل ، فإن قولنا : أحسنت إلى فانا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلى فانا أعلم بالمسيء وعيد باشد العقاب ، قيل : وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل : والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى .

( هذا ومن باب الإشارة ) :وقوله سبحانه : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 44 ] فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالاستئذان ، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن ؟

وقال الواسطي : إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن وإن لله سبحانه عباداً به يقومون وبه يقعدون ، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان :

لو قال تيها قف على جمر الغضى *** لوقفت ممتثلاً ولم أتوقف