وقوله - تعالى - : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري } إخبار منه - سبحانه - بما فعله قومه بعد مفارقته لهم .
{ فَتَنَّا } من الفَتْن ومعناه لغة : وضع الذهب فى النار ليتبين أهو خالص أز زائف .
والفتنة تطلق فى القرآن بإطلاقات متعددة منها : الدخول فى النار كما فى قوله - تعالى - : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } ومنها الحجة كما فى قوله - تعالى - : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ومنها : الاختبار والامتحان ، كما فى قوله - سبحانه - : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ومنها الاضلال والاشراك ، كما فى قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } وقوله - سبحانه - :
{ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً . . } ويبدو أن المراد بالفتنة هذا المعنى الأخير وهو الإضلال والشرك ، لأن فتنتهم كانت بسبب عبادتهم للعجل فى غيبه موسى - عليه السلام - .
ويدل على هذا قوله - تعالى - : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ . . } والسامرى : اسم للشخص الذى كان سببا فى ضلال بنى إسرائيل ، قيل : كان من زعماء بنى إسرائيل وينسب إلى قبيلة تعرف بالسامرة .
وقيل : إنه كان من قوم يعبدون البقر ، وقيل غير ذلك من أقوال مظنونة غير محققة .
أى : قال الله - تعالى - لموسى : فإنا قد أضللنا قومك من بعد مفارقتك لهم ، وكان السبب فى ضلالهم السامرى ، حيث دعاهم إلى عبادة العجل فانقادوا له وأطاعوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ * فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مّوْعِدِي } .
يقول الله تعالى ذكره قال الله لموسى : فإنا يا موسى قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل ، وذلك كان فتنتهم من بعد موسى . ويعني بقوله : " مِنْ بَعْدِكَ " : من بعد فراقك إياهم . يقول الله تبارك وتعالى : " وأضَلّهُمُ السّامِرِيّ " وكان إضلال السامريّ إياهم دعاءه إياهم إلى عبادة العجل .
إسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مُقدّره وخالقُ أسبابه البعيدة . وأمّا إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله { وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم .
و { السَّامِرِيُّ } يظهر أن ياءه ياء نسبة ، وأن تعريفه باللاّم للعهد . فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر ؛ فالسامريّ نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سَامِر ، وقد كان من الأسماء القديمة ( شُومر ) و ( شامر ) وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب . وفي « أنوار التنزيل » : « السامريّ نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها : السامرة » اهـ . أخذنا من كلام البيضاوي أن السامريّ منسوب إلى قبيلة وأما قوله « من بني إسرائيل » فليس بصحيح . لأنّ السامرة أمّة من سكان فلسطين في جهة نَابلس في عهد الدولة الروميّة ( البيزنطية ) وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثمّ امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى عليه السلام مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود . فليس هو منسوباً إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأنّ مدينة السامرة بناها الملك ( عَمْري ) ملك مملكة إسرائيل سنة 925 قبل المسيح . وجعلها قصبة مملكته ، وسماها ( شوميرون ) لأنّه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه ( شَامر ) بوَزْنتَين من الفضة ، فعُرّبت في العربية إلى سامرة ، وكان اليهود يَعُدونها مدينة كفر وجور ، لأنّ ( عمري ) بانيها وابنه ( آخاب ) قد أفسدا ديانة التّوراة وعبدا الأصنام الكنعانية . وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما ، فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام .
ويحتمل أن يكون السامريّ نسباً إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر ، كما قال بعض أهل التفسير ، فيكون فتى قبطياً اندس في بني إسرائيل لتعلّقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم . وعن سعيد بن جبير : كان السامريّ من أهل ( كرمان ) ، وهذا يقرّب أن يكون السامريّ تعريبَ كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب .
ويجوز أن تكون الياء من السامريّ غير ياء نسب بل حرفاً من اسم مثل : ياء عليّ وكرسيّ ، فيكون اسماً أصلياً أو منقولاً في العبرانية ، وتكون اللاّم في أوّله زائدة .
وذكر الزمخشري والقرطبي خليطاً من القصة : أن السامريّ اسمه موسى بن ظَفَر بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء وأنه ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن خَاله ، وأنه كفَر بدين موسى بعد أن كان مؤمناً به ، وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئزّ النفس منها .
واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضاً السامرة ، لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهوديّة في أصول الدّين ، فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع ، وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلاّ من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنيّة على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخّص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصْهار ملوكهم ، ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى عليه السلام ففي إنجيل متى إصحاح 10 وفي إنجيل لوقا إصحاح 9 ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح ، وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم .
ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلّة كبرى ، إذ زعموا أنّ هارون صنع العجل لهم لمّا قالوا له : « اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل فصنَع لهم عجلاً من ذهب » . وأحسب أنّ هذا من آثار تلاشي التّوراة الأصلية بعد الأسر البابلي ، وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة . ومما نقطع به أنّ هارون معصوم من ذلك لأنه رسول .