{ والليل وما وسق } أي جمع وضم ، يقال : وسقته أسقه وسقاً ، أي : جمعته ، واستوثقت الإبل : إذا اجتمعت وانضمت . والمعنى : والليل وما جمع وضم ما كان بالنهار منتشراً من الدواب ، وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه . روى منصور عن مجاهد قال : ما لف وأظلم عليه . وقال مقاتل بن حيان : ما أقبل من ظلمة أو كوكب . وقال سعيد بن جبير . وما عمل فيه
ثم أقسم - سبحانه - ببعض مخلوقاته ، على أن مشيئته نافذة ، وقضاءه لا يرد ، وحكمه لا يتخلف . فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق . والليل وَمَا وَسَقَ . والقمر إِذَا اتسق . لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } .
والفاء فى قوله { فَلاَ أُقْسِمُ } واقعة فى جواب شرط مقدر ، وهى التى يعبر عنها بالفصيحة ، و " لا " مزيدة لتأكيد القسم ، وجوابه " لتركبن " .
والشفق : الحمرة التى تظهر فى الأفق الغربى بعد غروب الشمس ، وهو ضياء من شعاعها ، وسمى شفقا لرقته ، ومنه الشفقة لرقة القلب .
والوسق : جمع الأشياء ، وضم بعضها إلى بعض . يقال : وسَق الشئَ يسِقُه - كضرب - إذا جمعه فاجتمع ، ومنه قولهم : إبل مستوسقة ، أى : مجتمعة ، وأمر متسق . أى : مجتمع على ما يسر صاحبه ويرضيه .
واتساق القمر : اجتماع ضيائه ونوره ، وهو افتعال من الوسق . وهو الجمع والضم ، وذلك يكون فى الليلة الرابعة عشرة من الشهر .
أى : أقسم بالحمرة التى تظهر فى الأفق العربى ، بعد غروب الشمس ، وبالليل وما يضمه تحت جناحه من مخلوقات وعجائب لا يعلمها إلا الله - تعالى - وبالقمر إذا ما اجتمع نوره ، وأكتمل ضاؤه ، وصار بدرا متلألئاً .
وفى القسم بهذه الأشياء ، دليل واضح على قدرة الله - تعالى - الباهرة ، لأن هذه الأشياء تتغير من حال إلى حال ، ومن هيئة إلى هيئة . . فالشفق حالة تأتى فى أعقاب غروب الشمس ، والليل يأتى بعد النهار ، والقمر يكتمل بعد نقصان . . وكل هذه الحالات الطارئة ، دلائل على قدرة الله - تعالى - .
( والليل وما وسق ) . . هو الليل وما جمع وما حمل . . بهذا التعميم ، وبهذا التجهيل ، وبهذا التهويل . والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير . . ويذهب التأمل بعيدا ، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر ، وعوالم خافية ومضمرة ، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير . . ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة ، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير : ( والليل وما وسق ) . . إنما يغمره من النص العميق العجيب ، رهبة ووجل ، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون !
وقوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : والليل وما جمع ، مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير ، أو يَدِب نهارا ، يقال منه : وسَقْتُه أسِقُه وَسْقا ، ومنه : طعام موسُوق ، وهو المجموع في غرائر أو وعاء ، ومنه الوَسْق ، وهو الطعام المجتع الكثير ، مما يُكال أو يُوزن ، يقال : هو ستون صاعا ، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما وَسَقَ يقول : وما جَمَعَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في هذه الاَية وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جَمَع . وقال ابن عباس :
*** مُسْتَوْسِقاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سائِقَا ***
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سأل حفص الحسن عن قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جمع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جمع ، يقول : ما آوى فيه من دابّة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ : وما لفّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما أظلم عليه ، وما أدخل فيه . وقال ابن عباس :
*** مُسْتَوْسِقاتٍ لَوْ يَجِدْنَ حادِيا ***
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : وما جمع من نجم أو دابة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما وَسق قال : وما جمع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جمع ، مجتمع فيه الأشياء التي يجمعها الله ، التي تأوي إليه ، وأشياء تكون في الليل لا تكون في النهار ، ما جمع مما فيه ما يأوي إليه ، فهو مما جمع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : ما لُفّ عليه .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما دخل فيه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ : وما جمع .
قال : ثنا وكيع ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس وَما وَسَقَ : وما جمع ، ألم تسمع قول الشاعر :
*** مُسْتَوْسِقاتِ لَمْ يَجِدْنَ سائِقا ***
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : ما حاز إذا جاء الليل .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما ساق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن أحمد المَرْوَزيّ ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : سمعت عكرمة وسئل وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : ما ساق من ظلمة ، فإذَا كان الليل ، ذهب كلّ شيء إلى مأواه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن عكرِمة وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : ما ساق من ظلمة ، إذا جاء الليل ساق كلّ شيء إلى مأواه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : ما ساق معه من ظلمة إذا أقبل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يعني : وما ساق الليل من شيء جمعه النجوم ، ويقال : والليل وما جمع .
و { ما وَسَق } ( مَا ) فيه مصدرية ، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب .
والوسْق : جمع الأشياء بعضها إلى بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشراً في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } [ القصص : 73 ] ، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقْسم به قسماً أدمجت فيه منّة . وقيل : ما وسقه الليل : النجوم ، لأنها تظهر في الليل ، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسِق أشياء متفرقة . وهذا أنسب بعطف القمر عليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والليل وما جمع، مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير، أو يَدِب نهارا، يقال منه: وسَقْتُه أسِقُه وَسْقا، ومنه: طعام موسُوق، وهو المجموع في غرائر أو وعاء، ومنه الوَسْق، وهو الطعام المجتمع الكثير مما يُكال أو يُوزن... عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ: وما لفّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: {وما وسق} أي وما حمل معه [من] الظلمة والنجم والدابة وغير ذلك. والوسق الحمل، يقال: وسق بعير أي حمل بعير. قال بعضهم: وسق: أي جمع، وساق كل شيء إلى مأواه من الطير والسباع، فذكر النهار والليل لما فيهما من المنافع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واللّيل} أي الذي يغلبه فيذهبه {وما وسق} أي جمع في بطنه وطرد وساق من ذلك الشفق ومن النهار الذي كان قبله والنجوم التي أظهرها وغير ذلك من الغرائب التي تدل على أن موجده بعد أن لم يكن ومذهب ما كان به قادر على الإبداء والإعادة وكل ما يريد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو الليل وما جمع وما حمل.. بهذا التعميم، وبهذا التجهيل، وبهذا التهويل. والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير.. ويذهب التأمل بعيدا، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر، وعوالم خافية ومضمرة، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير.. ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير: (والليل وما وسق).. إنما يغمره من النص العميق العجيب، رهبة ووجل، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والوسْق: جمع الأشياء بعضها إلى بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشراً في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} [القصص: 73]، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقْسم به قسماً أدمجت فيه منّة. وقيل: ما وسقه الليل: النجوم، لأنها تظهر في الليل، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسِق أشياء متفرقة. وهذا أنسب بعطف القمر عليه...