ثم ذكر - سبحانه - مقالة ثالثة لها فقال : { أَوْ تَقُولَ } هذه النفس { حِينَ تَرَى العذاب } فى الآخرة { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } أى رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ } فيها { مِنَ المحسنين } لأقوالهم وأفعالهم ، وعقائدهم ، بحيث أخلص العبادة لله - تعالى - وأطيعه فى السر والعلن .
وهكذا يصور القرآن الكريم أحوال النفوس فى الآخرة ، تصوير مؤثرا بليغاً ، يحمل كل عاقل على الإِيمان الصالح الذى ينفعه فى ذلك اليوم الهائل الشديد .
يقول تعالى ذكره : وأنيبوا إلى ربكم أيها الناس ، وأسلموا له ، أن لا تقول نفس يوم القيامة : يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله ، في أمر الله ، وأن لا تقول نفس أخرى : لو أن الله هداني للحقّ ، فوفقني للرشاد لكنت ممن اتقاه بطاعته واتباع رضاه ، أو أن لا تقول أخرى حين ترى عذاب الله فتعاينه لَوْ أنّ لي كَرّةً تقول : لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكُونَ مِنَ المُحْسِنينَ الذين أحسنوا في طاعة ربهم ، والعمل بما أمرتهم به الرسل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ . . . الاَية ، قال : هذا قول صنف منهم أوْ تَقُولَ لَوْ أنّ اللّهَ هَدَانِي . . . الاَية ، قال : هذا قول صنف آخر : أوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ . . . الاَية ، يعني بقوله لَوْ أنّ لي كَرّةً رجعة إلى الدنيا ، قال : هذا صنف آخر .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ قال : أخبر الله ما العباد قائلوه قبل أن يقولوه ، وعملهم قبل أن يعملوه ، قال : وَلا يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرً أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ أوْ تَقُولَ لَوْ أنّ اللّهَ هَدَانِي . . . إلى قوله : فأكُونَ مِنَ المُحْسِنينَ يقول : من المهتدين ، فأخبر الله سبحانه أنهم لو رُدّوا لم يقدروا على الهدي ، وقال : وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنّهُمْ لَكَاذِبُونَ وقال : وَنُقَلّبُ أفْئِدَتِهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لم يؤمنوا به أول مرة ، قال : ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا .
وفي نصب قوله فأَكُونَ وجهان أحدهما : أن يكون نصبه على أنه جواب لو والثاني : على الرد على موضع الكرة ، وتوجيه الكرة في المعنى إلى : لو أن لي أن أكر ، كما قال الشاعر :
فَما لَكَ مِنْها غيرُ ذِكْرى وَحَسْرَةٍ *** وَتَسأَلَ عَنْ رُكْبانِها أيْنَ يَمّمُوا ؟
فنصب تسأل عطفا بها على موضع الذكرى ، لأن معنى الكلام : فمالك ( . . . ) بيرسلَ على موضع الوحي في قوله : إلاّ وَحْيا .
وقد قرر بعض الناس الكلام : أنه لي أن أكر فأكون ، ذكره الطبري ، وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني{[9921]} .
وأما قولها : { حين ترى العذاب لو أنَّ لي كَرَّة } فهو تمنّ محض . و { لو } فيه للتمني ، وانتصب { فأكون } على جواب التمنّي .
والكرة : الرِّجعة . وتقدم في قوله : { فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين } في سورة [ الشعراء : 102 ] ، أي كَرة إلى الدنيا فأُحْسِن ، وهذا اعتراف بأنها علمت أنها كانت من المسيئين . وقد حُكي كلام النفس في ذلك الموقف على ترتيبه الطبيعي في جَوَلانه في الخاطر بالابتداء بالتحسر على ما أوقعت فيه نفسها ، ثم بالاعتذار والتنصل طمعاً أن ينجيها ذلك ، ثم بتمنيّ أن تعود إلى الدنيا لتعمل الإِحسان كقوله تعالى : { قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 ، 100 ] . فهذا الترتيب في النظم هو أحكم ترتيب ولو رتب الكلام على خلافه لفاتت الإِشارة إلى تولد هذه المعاني في الخاطر حينما يأتيهم العذاب ، وهذا هو الأصل في الإِنشاء ما لم يوجد ما يقتضي العدولَ عنه كما بينتُه في كتاب « أصول الإِنشاء والخطابة » .