قوله تعالى : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم } يقول : إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، ونقضوا العهد ، وكنا ذرية من بعدهم ، أي كنا أتباعاً لهم ، فاقتدينا بهم ، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم وتقولوا .
قوله تعالى : { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين ؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد .
ثم بين - سبحانه - سببا أخر لهذا الاشهاد فقال : { أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } .
أى : وفعلنا ذلك - أيضا منعا لكم من أن تقولوا يوم الحساب : إن آباءنا هم الذين سنوا هذا الاشراك وساروا عليه فنحن قد اتبعناهم في ذلك بمقتضى أننا أبناؤهم ، وننهج نهجهم من بعدهم ، فإن قولكم هذا غير مقبول بعد أن هيأ الله لكم من الأسباب ما يفتح قلوبكم لنور الحق لو كنتم مستعدين لقبوله .
والاستفهام في قوله { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } للإنكار . أى : أنت يا ربنا حكيم وعادل فهل تؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك وأسسوا من الباطل أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول وأقوال الرسل ؟ إنك يا ربنا قد وعدت أنك لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء ونحن قد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل فكيف تؤاخذنا ؟
والجواب على ذلك أن الإقرار بالربوبية والتوحيد هو في أصل فطرتكم فلم لم ترجعوا إليه عندما دعاكم رسولنا الكريم إلى وحدانية الله ونبذ الشركاء إن انقيادكم للاباء بعد أن وهبكم الله العقول المفكرة ، وأرسل إليكم الرسل مبشرين ومنذرين لن يعفيكم من المسئولية ، ولن ينقذكم من العذاب .
( أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا ) . . . [ الآية ] .
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي : في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله [ ص ] . " كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية . " على هذه الملة " - فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله - [ ص ] : " يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى ، أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله [ ص ] أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فاشتد عليه ، ثم قال : " ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟ " . فقال رجل : يا رسول الله . أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : " إن خياركم أبناء المشركين ! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها وينصرانها " . . قال الحسن : لقد قال في كتابه : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) . . . الآية .
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم . . الآيات على وجهه لا على سبيل الحال . لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه . وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه . . ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير ، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية . . والله أعلم أي ذلك كان . .
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده . وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة ؛ يخرج بها كل مولود إلى الوجود ؛ فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها ! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال . وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف .
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة " الإنسان " وحده ؛ ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله - وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله . موصولة به غير منقطعة عنه ، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه - بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة . .
إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود ، واضح الأثر في شكل الكون ، وتنسيقه ، وتناسق أجزائه ، وانتظام حركته ، واطراد قوانينه ، وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين . . وأخيراً - حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر - وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته ، وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعاً عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها . .
ويوماً بعد يوم يكشف البشر أطرافاً من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون ، وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته - في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة - ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني - الذي لا يمكن أن يكون يقينياً بحكم وسائله البشرية - في تقرير هذا الناموس . إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس . واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة ، على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق . والقرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة ، الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه . كما أنه لايدع مجالاً للشك في عبودية هذا الكون لربه ، واعترافه بوحدانيته ، وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به ؛ وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده .
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله - بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة - سارٍ كذلك في كيان الإنسان - بوصفه من كائنات هذا الكون - مستقر في فطرته ، لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به ؛ فهو مدرك بالفطرة ، مستقر في صميمها ، تستشعره بذاتها ، وتتصرف وفقه ، ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد ، فتنحرف عن إدراكها الذاتي له ، وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها ، بدلاً من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم .
هذا الناموس - بذاته - هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها . ميثاق مودع في كيانها . مودع في كل خلية حية منذ نشأتها . وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات . وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد ، ذي المشيئة الواحدة ، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها . فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها - سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار - لا سبيل إلى أن يقول أحد : إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد ، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد . أو يقول : إنني خرجت إلى هذا الوجود ، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول ! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة :
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تَقُولُوَاْ إِنّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنّا ذُرّيّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : شهدنا عليكم أيها المقرّون بأن الله ربكم ، كيلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، إنا كنا لا نعلم ذلك وكنا في غفلة منه ، أو تقولوا : إنّمَا أشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وكُنّا ذُرّيّةً مِنْ بَعْدِهِمْ اتبعنا منهاجهم أفَتُهْلِكُنا بإشراك من أشرك من آبائنا ، واتباعنا منهاجهم على جهل منا بالحقّ ؟
ويعني بقوله بمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ : بما فعل الذين أبطلوا في دعواهم إلها غير الله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض المكيين والبصريين : «أن يقولوا » بالياء ، بمعنى : شهدنا لئلا يقولوا على وجه الخبر عن الغيب . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة : أن تَقُولوا بالتاء على وجه الخطاب من الشهود للمشهود عليهم .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى متفقتا التأويل وإن اختلفت ألفاظهما ، لأن العرب تفعل ذلك في الحكاية ، كما قال الله : لَتُبَيّنُنّهُ للنّاس و«ليبيننه » ، وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
{ أو تقولوا } عطف على { أن تقولوا } ، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة . { إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا . { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } يعنى آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك . وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه ، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب " المصابيح " ، والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال .