وقوله تعالى : { حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } الينبوع : العين الجارية ، سألوه أن يجري لهم عينًا معينًا في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا ، وذلك{[17841]} سهل يسير على الله تعالى ، لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا ، ولكن علم أنهم لا يهتدون ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً } .
يقول ذكره : وقال يا محمد ، المشركون بالله من قومك لك : لن نصدّقك ، حتى تفجّر لنا من أرضنا هذه عينا تنبع لنا بالماء .
وقوله يَنْبُوعا يفعول من قول القائل : نبع الماء : إذا ظهر وفار ، ينْبُع ويَنْبَع ، وهو ما نبع . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا : أي حتى تفْجُر لنا من الأرض عيونا : أي ببلدنا هذا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا قال : عيونا .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَنْبُوعا قال : عيونا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله تَفْجُرَ فروي عن إبراهيم النخعيّ أنه قرأ حتى تَفْجُرَ لَنا خفيفة وقوله فَتُفَجّرَ الأنهَارَ خِلاَلَها تَفْجِيرا بالتشديد ، وكذلك كانت قراء الكوفيين يقرءونها ، فكأنهم ذهبوا بتخفيفهم الأولى إلى معنى : حتى تفجر لنا من الأرض ماء مرّة واحدة . وبتشديدهم الثانية إلى أنها تفجر في أماكن شتى ، مرّة بعد أخرى ، إذا كان ذلك تفجر أنهار لا نهر واحد والتخفيف في الأولى والتشديد في الثانية على ما ذكرت من قراءة الكوفيين أعجب إليّ لما ذكرت من افتراق معنييهما ، وإن لم تكن الأولى مدفوعة صحتها .
عطف جملة { وقالوا } على جملة { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } [ الإسراء : 89 ] ، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى .
وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفوراً ، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه ، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلاً جميعه أو بعضهم قائلاً بعضه .
ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات . وقد ذكر ابن إسحاق : أن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، وناساً معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي أن يأتيهم . فأسرع إليهم حرصاً على هداهم ، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم . وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد . وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم ، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية .
وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى : { أو ترقى في السماء } إلى آخره ، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي .
وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف ( لن ) لمفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه .
والمراد بالأرض : أرض مكة ، فالتعريف للعهد . ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات .
والتفجير : مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفَجْر ، وهو الشق باتساع . ومنه سمي فجر الصباح فجراً لأن الضوء يشق الظلمة شقاً طويلاً عريضاً ، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه . ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى : { وفجرنا خلالها نهراً } [ الكهف : 33 ] وقوله : { فتفجر الأنهار } .
وقرأه الجمهور بضم التاء وتشديد الجيم على أنه مضارع ( فجر ) المضاعف . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة على أنه مضارع فجر كنصَر ، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع .
ومعنى { لن نؤمن لك } لن نصدقك أنك رسول الله إلينا .
والإيمان : التصديق . يقال : آمنه ، أي صدقه . وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام ، قال تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا } [ يوسف : 17 ] وقال { فآمن له لوط } [ العنكبوت : 26 ] . وهذه اللام من قبيل ما سماه في « مغني اللبيب » لام التنبيين . وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها ، فإن مجرور اللام بعد فعل { نؤمن } مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد .
وقد يقال : إنها لدفع التباس مفعول فعل « آمن » بمعنى صدق بمفعول فعل ( آمن ) إذا جعله أميناً . وتقدم قوله تعالى ؛ { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } في سورة [ يونس : 83 ] .
والينبوع : اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها . وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية ، والينبوع مشتقة من مادة النبع ؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة ، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت ، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري . وقيل : اشتق من العَب المجازي . ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل ؛ يَكْسوم اسم قائد حبشي ، ويرموك اسم نهر . وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم . وقال السيوطي في « المزهر » : إن ابن دريد عقد له في « الجمهرة » باباً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعنى من أرض مكة ينبوعا، يعنى عينا تجري، وذلك أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: سير لنا الجبال، أو ابعث لنا الموتى فنكلمهم، أو سخر لنا الريح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا أطيق ذلك"، فقال عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وهو ابن عم أبي جهل، والحارث بن هشام، وهما ابنا عم، فقالا: يا محمد، إن كنت لست فاعلا لقومك شيئا مما سألوك فأرنا كرامتك على الله بأمر نعرفه، فجر لبني أبيك ينبوعا بمكة مكان زمزم، فقد شق علينا الميح...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول ذكره: وقال يا محمد، المشركون بالله من قومك لك: لن نصدّقك، حتى تفجّر لنا من أرضنا هذه عينا تنبع لنا بالماء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} إلى آخر ما ذكر من الأسئلة جميعا من فريق واحد. ويجوز أن يكون من كل فريق سؤال، لم يكن ذلك من غيره من الفرق... ثم إن الذي حملهم على هذه الأسئلة المحالة الفاسدة وجوه:
أحدها: سؤاله بما كان يعدهم رسول الله الجنان والأنهار الجارية والبساتين المثمرة، إن هم، تابوا، وأجابوا، وكان يُوعِدُهُم العقوبات، إن تركوا إجابتهم، من إسقاط الأسماء كسفا...
(والثاني): أن يكون أهل الكتاب علموا مشركي العرب الذين، لا كتاب لهم، هذه الأسئلة الفاسدة المحالة التي عرفوا لأنهم لا يجابون فيها، ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فإنه لا يجيبهم ليرى (السَّفَلَةُ منهم والأتباع أن لو كان رسول الله أجابهم لتمادوا في طغيانهم وضلالاتهم، ولبقوا على ما هم عليه...
(والثالث): أن يكون الرؤساء منهم والقادة سألوه عن ذلك على علم منهم أنه لا يجيبهم ليرى أتباعهم وسفلتهم أنهم قد حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترضوا لحُجَجِهِ وبَرَاهِينه لئلا ينظروا إلى حججه و براهينه لتبقى لهم الرئاسة والمنافع التي كانت لهم، ولا يذهب ذلك منهم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
التفجير تشقيق الأرض لينبع الماء منها، ومنه سمي الفجر لأنه ينشق عن عمود الصبح، ومنه سمي الفجور لأنه شق الحق بالخروج إلى الفساد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات: فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا: لن نؤمن لك حتى... وحتى {تَفْجُرَ} تفتح... {مّنَ الأرض} يعنون أرض مكة {يَنْبُوعًا} عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وروي في قول هذه المقالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث طويل، مقتضاه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وسادتها، اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك، أو يجمعوا له كثيراً من المال إن أراد الغنى، أو ُيِطُّبوه إن كان به داء ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك إلى الله، وقال «إنما جئتكم عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم، فإن سمعتم وأطعتم فحسن، وإلا صبرت لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء»، فقالوا له حينئذ فإن كان ما تزعمه حقاً ففجر ينبوعاً ونؤمن لك، ولتكن لك جنة إلى غير ذلك مما كلفوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا كله إلى الله، ولا يلزمني هذا ولا غيره، وإنما أنا مستسلم لأمر الله تعالى»، هذا هو معنى الحديث. وفي الألفاظ اختلاف وروايات متشعبة يطول سوق جميعها، فاختصرت لذلك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف جملة {وقالوا} على جملة {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} [الإسراء: 89]، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى.
وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفوراً، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلاً جميعه أو بعضهم قائلاً بعضه.
ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات. وقد ذكر ابن إسحاق: أن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وناساً معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي أن يأتيهم. فأسرع إليهم حرصاً على هداهم، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم. وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد. وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية.
وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى: {أو ترقى في السماء} إلى آخره، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي.
وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف (لن) لمفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه.
والمراد بالأرض: أرض مكة، فالتعريف للعهد. ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات.
والتفجير: مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفَجْر، وهو الشق باتساع. ومنه سمي فجر الصباح فجراً لأن الضوء يشق الظلمة شقاً طويلاً عريضاً، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه. ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى: {وفجرنا خلالها نهراً} [الكهف: 33] وقوله: {فتفجر الأنهار}...
ومعنى {لن نؤمن لك} لن نصدقك أنك رسول الله إلينا.
والإيمان: التصديق. يقال: آمنه، أي صدقه. وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام، قال تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17] وقال {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]...