تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يغرنك} يا محمد صلى الله عليه وسلم {تقلب الذين كفروا في البلاد}، نزلت في مشركي العرب، وذلك أن كفار مكة كانوا في رخاء ولين عيش حسن، فقال بعض المؤمنين: أعداء الله فيما ترون من الخير وقد أهلكنا الجهد، فأخبر الله عز وجل بمنزلة الكفار في الآخرة، وبمنزلة المؤمنين في الآخرة، فقال سبحانه: {لا يغرنك} يا محمد صلى الله عليه وسلم ما فيه الكفار من الخير والسعة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يغرنك يا محمد تقلب الذين كفروا في البلاد، يعني: تصرفهم في الأرض وضربهم فيها. فنهى الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البِلاد، وإمهال الله إياهم مع شركهم وجحودهم نعمه، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به غيره من أتباعه وأصحابه، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله، ولكن كان بأمر الله صادعا، وإلى الحق داعيا.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الله عز وجل إنما قال له ذلك تأديباً وتحذيراً. والثاني: أنه خطاب لكل من سمعه، فكأنه قال: لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تتداخلنك تهمة بأنَّ لهم عندنا قدراً وقيمة، إنما هي أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يَغُرَّنَّكَ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد، أي لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض، وتصرفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون ويتدهقنون. وعن ابن عباس: هم أهل مكة. وقيل: هم اليهود. وروي أن أناساً من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد.
فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهي عن الاغترار به؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً، فكأنه قيل: لا يغرنكم والثاني: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه، كقوله: {وَلاَ تَكُنْ مع الكافرين} [هود: 42]، {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14]، {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} [القلم: 8] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ} [النساء: 36] وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب.
... اعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في النعم، ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة، فقال: {لا يغرنك} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك: غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه، فيقول: غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه، وتقول العرب في الثوب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه: رددته على غرة.
المسألة الثانية: المخاطب في قوله: {لا يغرنك} من هو؟ فيه قولان: الأول: أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن المراد هو الأمة. قال قتادة: والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره، ويمكن أن يقال: السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه، كما قال: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} فسقط قول قتادة، ونظيره قوله: {ولا تكن من الكافرين} {ولا تكونن من المشركين} {ولا تطع المكذبين} والثاني: وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين، كأنه قيل: لا يغرنك أيها السامع.
المسألة الثالثة: تقلب الذين كفروا في البلاد، فيه وجهان: الأول: نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية. والثاني: قال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد، تصرفهم في التجارات والمكاسب، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاءوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُوا في البلاد} بيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بيانِ حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قد علم مما تقدم أن بعض المفسرين قالوا إن المراد بقوله تعالى في الآيات السابقة: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر وأننا اخترنا أن المراد ذلك وما وعد من ثواب الآخرة. وعلى هذين القولين ربما يستبطئ بعض المؤمنين إيتاءهم الوعد المتعلق بالنصر والتغلب على الكافرين الظالمين كما يدل قوله تعالى: (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) [البقرة: 214] فجاءه قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) الآية تسلية لهم وبيانا لكون الإملاء للكافرين واستدراجهم لا يصح أن يكون مدعاة ليأس المؤمنين ولا حجة للمنافقين الذين قالوا عند الشدة: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) [السجدة: 12] فهذا وجه في اتصال هذه الآية بما قبلها في ترتيب الآيات الشريفة...
وقال الأستاذ الإمام: كان الكلام في أولي الألباب المؤمنين، وقد علمنا أن الله تعالى يستجيب لهم بالأعمال، فالعبرة بالعمل ومنه المهاجرة وتحمل الإيذاء في سبيل الله وبذل النفس في القتال حتى يقتلوا، وبذلك يستحقون ثواب الله تعالى. ثم ذكر حال الكافرين للمقابلة وربط الكلام بما قبله بالنهي عن الاغترار بما هم فيه من نعيم وتمتع، كأنه يقول: على المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعدته فهو النعيم الحقيقي الباقي وهذا الذي فيه الكافرون متاع قليل فلا تطلبوه ولا تحفلوا به. يسهل بهذا المسلمين ما كلفوه من تحمل الإيذاء والعناء في إقامة الحق.
أقول: أما معنى الآية فهو: لا يغرنك أيها المخاطب المؤمن أو لا يغرنك يا محمد (قولان) تقلبهم، قالوا وما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذا فالمراد به أمته، فروي عن قتادة أنه قال: والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله. ومعنى غره أصاب غرته فنال منه بالقول أو العمل شيئا مما يريد وهو غافل عن ذلك لم يفطن لما في باطن الشيء مما يخالف الظاهر. قال الراغب: والغرة (بالكسر) غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة. وأصل ذلك من الغر (بالفتح) وهو الأثر الظاهر من الشيء ومنه غرة الفرس وغرار السيف أي حده. وغر الثواب أثر كسره وقيل: اطوه على غره، وغره كذا غرور كأنما طواه على غره ا ه. فالأظهر أن الغرور مأخوذ من الغرة (بالكسر) أي الغفلة ويقرب منه أو يتصل به أخذه من غر الثوب (بالفتح) وهو أثر طيه الذي يعبر عنه بالثني والكسر. وجمع الغر على غرور، قال في الأساس "واطوه على غروره أي مكاسره "والمراد اطوه على طياته الأولى ليبقى على ما كان عليه ومنه غرارة الصغار (بالفتح) أي سذاجتهم وقلة تجاربهم يُقال فتى غر وفتاة غر (بالكسر) وقيل إن الغرور مأخوذ من الغرار بالكسر وهو من السيف والسهم والرمح حدها قالوا غره أي خدعه وأطعمه بالباطل كأنه ذبحه بالغرار. وفيه مبالغة وبعد.
وحاصل معنى النهي عن الغرور: أن تقلب الذين كفروا في البلاد آمنين معتزين لا ينبغي أن يكون سببا لغرور المؤمن بحالهم وتوهمه أن هذا شيء يدوم لهم، فإن هذا من إبقاء الأشياء على ظاهرها من غير بحث عن أسبابها وعللها. والغوص على بواطنها ودخائلها. كما يطوى الثوب على غره وكما ينظر الغر إلى ظواهر الأشياء دون بواطنها. ومن اكتنه حالهم الاجتماعية علم أن تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالأمن والنعمة فيها ليس قائما على أساس متين، ولا مرفوعا على ركن ركين. وإنما هو من قبيل حركة الاستمرار لمحرك من الباطل سابق لم يكن له معارض، فإذا عارضه ما عليه المؤمنون من الحق لا يلبث أن يزول بالنسبة إلى مجموعهم. وأما من يموت من أفرادهم على فراش نعيمه ولم ينسأ له في أجله إلى أن يظهر أمر المؤمنين فما يستقبله من عذاب الآخرة أعظم مما ناله من نعيم الدنيا. والنتيجة أن ذلك كما قال: (متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله.. التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة، حتى لا يكون فتنة لأصحابه، ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين، الذي يعانون ما يعانون، من أذى وإخراج من الديار، وقتل وقتال:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل.. ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها نزلا من عند الله. وما عند الله خير للأبرار)..
وتقلب الذين كفروا في البلاد، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة. يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين؛ وهم يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجهد، ويعانون المطاردة أو الجهاد.. وكلها مشقات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون!.. ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء، والباطل وأهله في منجاة، بل في مسلاة! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد.
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض في أثناء هذه الخاتمة، نشأ عن قوله: {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم} [آل عمران: 195] باعتبار ما يتضمّنه عدَمُ إضاعة العمل من الجزاء عليه جزاء كاملاً في الدنيا والآخرة، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون، وهم المراد بالذين كَفَروا كَمَا هو مصطلح القرّاء.
والخطاب لغير معيّن ممّن يُتوهّم أن يغرّه حسن حال المشركين في الدنيا.
والغَرّ والغرور: الإطماع في أمر محبوب على نيّة عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع، وهو مشتقّ من الغرّة بكسر الغين وهي الغفلة، ورجل غِرّ بكسر الغين إذا كان ينخدع لمن خادعه. وفي الحديث:"المؤمن غرّ كريم" أي يظنّ الخير بأهل الشرّ إذا أظهروا له الخير.
وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب، وهو في العاقبة مكروه.
وأسند فعل الغرور إلى التقلّب لأنّ التقلّب سببه، فهو مجاز عقليّ، والمعنى لا ينبغي أن يغرّك. ونظيره: « لا يفتننّكم الشيطان». و (لا) ناهية لأنّ نون التوكيد لا تجيء مع النفي.
وقرأ الجمهور: لا يَغُرّنَّك بتشديد الراء وتشديد النون وهي نون التوكيد الثقيلة؛ وقرأها رويس عن يعقوب بنون ساكنة، وهي نون التوكيد الخفيفة.
والتقلّب: تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك، قال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تَقَلُّبُهم في البلاد} [غافر: 4].
والبلاد: الأرض. والمتاعُ: الشيء الذي يشتري للتمتّع به.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية، يريد اللّه سبحانه كما في أكثر الآيات القرآنية أن يُفرّغ نفوس النَّاس من كلّ إحساس بالتعظيم والاحترام والرهبة من القوى الكافرة الطاغية الباغية التي تواجه اللّه بالتمرّد في الفكر والعمل، وذلك من أجل إرجاعهم إلى إنسانيّتهم الحقيقية في الانفتاح على ما حولهم ومن حولهم بواقعيّة وانطلاق وموضوعيّةٍ، فلا يتصوّرون الأشياء بأكبر من حجمها الحقيقي في طبيعتها وفي تأثيرها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
السّؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النّبي يعتبر سؤالا عاماً يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان.
فإِنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطّغاة، والفراعنة والفسّاق، ويرفلون في النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية، والرخاء العريض، ويقيسونه غالباً بحياة الشدّة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم أُولئك العصاة مع ما هم عليه من الإِثم والفساد والجريمة بمثل تلك الحياة الرخية، بينما يعيش هؤلاء مع ما هم عليه من الإِيمان والتقوى والصلاح في مثل هذه الشدّة والعسرة، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإِيمان إِلى الشك والتّردد.
ولو أنّنا درسنا هذا السؤال بصورة دقيقة وجيدة، وحللنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت هذه الآيات إِلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشيء من التأمل والفحص.
تقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (لا يغرّنّك تقلب الذين كفروا في البلاد) والمخاطب في هذه الآية وإِن كان شخص النّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلا أنه من الواضح البيّن أن المراد هو عموم المسلمين.