البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ} (196)

{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } قيل : نزلت في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال قاله : ابن عباس .

وقال أيضاً : هم أهل مكة .

وروي أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش ، فيقولون : إنّ أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد .

وقال مقاتل : في مشركي العرب والذين كفروا لفظ عام ، والكاف للخطاب .

فقيل : لكل سامع .

وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته .

قاله : ابن عطية .

وقال : نزلت لا يغرنك في هذه الآية منزلة لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك ، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به .

فالكفار مغترون بتقلبهم ، والمؤمنون مهتمون به .

لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أنَّ هذا الإملاء للكفار إنما هو خير لهم ، فيجيء هذا جنوحاً إلى حالهم ، ونوعاً من الاغترار ، ولذلك حسنت لا يغرنك .

ونظيره قول عمر لحفصة : « لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم » المعنى : لا تغتري بما ينم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى .

وقال الزمخشري : لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد .

أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ، والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا ، ولا نغترر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض وتصرفهم في البلاد .

( فإن قلت ) : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عنه وعن الاغترار به ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما أن مدرة القوم ومقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً ، فكأنه قيل : لا يغرنكم .

والثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم ، فأكد عليه ما كان وثبت على التزامه كقوله : { ولا تكن مع الكافرين } { ولا تكونن من المشركين } { فلا تطع المكذبين } وهذا في النهي نظير قوله في الأمر : { اهدنا الصراط المستقيم } { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب ، وهو في المعنى للمخاطب .

وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأن التقلب لو غره لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه .

وملخص الوجهين اللذين ذكرهما : أن يكون الخطاب له والمراد أمّته ، أوله على جهة التأكيد والتنبيه ، وإن كان معصوماً من الوقوع فيه كما قيل :

قد يهزّ الحسام وهو حسام *** ويجب الجواد وهو جواد

وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : لا يغرنك ولا يصدنك ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة .

وتقلبهم : هو تصرفهم في التجارات قاله : ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .

أو ما يجري عليهم من النعم قاله : عكرمة ، ومقاتل .

أو تصرّفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله : بعض المفسرين .

/خ200