وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله [ ص ]
- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين ( من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) . . والتعقيبات على هذا الموكب : ( وكذلك نجزي المحسنين ) . ( وكلا فضلنا على العالمين ) . . ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا } أي كلا منهما . { ونوحا هدينا من قبل } من قبل إبراهيم ، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد . يتعدى إلى الولد . { من ذريته } الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه . وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم ، فلو كان لإبراهيم ، اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحا . { داود وسليمان وأيوب } أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق . { ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم .
{ ووهبنا } عطف على { آتينا } [ الأنعام : 83 ] و { إسحاق } ابنه من سارة ، { ويعقوب } هو ابن إسحاق ، و { كلاً } و { نوحاً } منصوبان على المفعول مقدمان على الفعل ، وقوله : { من قبل } لقومه صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { ومن ذريته } المعنى وهدينا من ذريته ، والضمير في { ذريته } قال الزجّاج جائز أن يعود على إبراهيم ، ويعترض هذا بذكر «لوط » عليه السلام وهو ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال أباً وقيل : يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد ، و { داود } يقال هو ابن أيشى{[4999]} { وسليمان } ابنه ، { وأيوب } هما فيما يقال أيوب بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، { ويوسف } هو ابن يعقوب بن إسحق ، { وموسى وهارون } ها ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، ونصب { دواد } يحتمل أن يكون ب { وهبنا } ويحتمل أن يكون ب { هدينا } وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف ، فهي غير مصروفة ، { وموسى } عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف في النكرة ، وقيل وزنه فعلى ، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا نكرة ، { وكذلك نجزي المحسنين } وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عمله وترغيب في الإحسان .
جملة { ووهبنا } عطف على جملة { آتيناها } [ الأنعام : 83 ] لأنّ مضمونها تكرمة وتفضيل . وموقع هذه الجملة وإن كانت معطوفة هو موقع التذييل للجمل المقصود منها إبطال الشرك وإقامةُ الحجج على فساده وعلى أنّ الصالحين كلّهم كانوا على خلافه .
والوَهْب والهِبة : إعطاء شيء بلا عوض ، وهو هنا مجاز في التّفضّل والتّيسير . ومعنى هبة يعقوب لإبراهيم أنّه وُلد لابنه إسحاق في حياة إبراهيم وكبر وتزوّج في حياته فكان قرّة عين لإبراهيم .
وقد مضت ترجمة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى : { وإذْ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات } [ البقرة : 124 ] . وترجمةُ إسحاق ، ويعقوب ، عند قوله تعالى : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } [ البقرة : 132 ] وقوله : { وإله آبائك إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] كلّ ذلك في سورة البقرة .
وقوله : { كلاّ هدينا } اعتراض ، أي كلّ هؤلاء هديناهم يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فحذف المضاف إليه لظهوره وعوض عنه التّنوين في « كلّ » تنوينَ عوض عن المضاف إليه كما هو المختار .
وفائدة ذكر هديهما التّنويه بإسحاق ويعقوب ، وأنّهما نبيئان نالا هدى الله كهَدْيه إبراهيم ، وفيه أيضاً إبطال للشرك ، ودمغ ، لقريش ومشركي العرب ، وتسفيه لهم بإثبات أنّ الصالحين المشهورين كانوا على ضدّ معتقدهم كما سيصرّح به في قوله : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ( الأعراف : 88 . (
وجملة : { ونوحاً هدينا من قبل } عطف على الاعتراض ، أي وهدينا نوحاً من قبلهم . وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى ، وإشارة إلى أنّ الهدى هو الأصل ، ومن أعظم الهدى التّوحيد كما علمت . وانتصب { نوحاً } على أنّه مفعول مقدّم على { هدينا } للاهتمام ، و { من قبل } حال من { نوحا } . وفائدة ذكر هذا الحال التّنبيه على أنّ الهداية متأصّلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب . وبُني { قبل } على الضمّ ، على ما هو المعروف في ( قبلُ ) وأخواتِ غيرٍ من حذف ما يضاف إليه قبلُ وينوى معناه دون لفظه . وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى : { إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً } في سورة آل عمران ( 33 .
( وقوله : { من ذرّيته } حال من داوود ، و { داود } مفعول ( هدينا ) محذوفاً . وفائدة هذا الحال التّنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم ، والتّنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذرّيّته . والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم لأنّ نوحاً أقرب مذكور ، ولأنّ لوطاً من ذرّية نوح ، وليس من ذرية إبراهيم حسبما جاء في كتاب التّوراة . ويجوز أن يكون لوط عومل معاملة ذرّيّة إبراهيم لشدّة اتّصاله به . كما يجوز أن يجعل ذكر اسمه بعد انتهاء أسماء من هم من ذرّيّة إبراهيم منصوباً على المدح بتقدير فعللٍ لا على العَطف .
وداود تقدّم شيء من ترجمته عند قوله تعالى : { وقَتل داودُ جالوتَ } في سورة البقرة ( 251 ) .
ونكمّلها هنا بأنّه داود بن يِسيِّ من سبط يهوذا من بني إسرائيل . ولد بقرية بيت لحم سنة1085 قبل المسيح ، وتوفّي في أورشليم سنة 1015 . وكان في شبابه راعياً لغنم أبيه . وله معرفة النغَم والعزف والرمي بالمقلاع . فأوحى الله إلى ( شمويل ) نبيء بني إسرائيل أنْ يبارك داودَ بن يسيّ ، ويمسحه بالزيت المقدّس ليكون ملكاً على بني إسرائيل ، على حسب تقاليد بني إسرائيل إنباء بأنّه سيصير ملكاً على إسرائيل بعد موت ( شاول ) الذي غضب الله عليه . فلمّا مسحه ( شمويل ) في قرية بيت لحم دُون أن يعلم أحد خطر لشاول ، وكان مريضاً ، أن يتّخذ من يضرب له بالعود عندما يعتاده المرض ، فصادف أن اختاروا له داود فألحقه بأهل مجلسه ليسمع أنغامه . ولما حارب جنُدُ ( شاول ) الكنعانيين كما تقدّم في سورة البقرة ، كان النصر للإسرائيليين بسبب داود إذ رمى البطل الفلسطيني ( جالوت ) بمقلاعه بين عينيه فصرعه وقطع رأسه ، فلذلك صاهره ( شاولُ ) بابنته ( ميكال ) ، ثم أن ( شاول ) تغيّر على داود ، فخرج داود إلى بلاد الفلسطينيين وجمع جماعة تحت قيادته ، ولما قُتل ( شاول ) سنة1055 بايعت طائفة من الجند الإسرائيلي في فلسطين داودَ ملكاً عليهم . وجعل مقرّ ملكه ( حَبْرُون ) ، وبعد سبع سنين قُتل ملك إسرائيل الذي خلف شاولَ فبايعت الإسرائيليون كلّهم داود ملكاً عليهم ، ورجع إلى أورشليم ، وآتاه الله النّبوءة وأمره بكتابة الزبور المسمّى عند اليهود بالمزامير .
وسليمان تقدّمت ترجمته عند قوله تعالى : { واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } في سورة البقرة ( 102 .
( وأيّوب نبيء أثبت القرآنُ نبوءته . وله قصّة مفصّلة في الكتاب المعروف بكتاب أيّوب ، من جملة كتب اليهود . ويظُنّ بعض المؤرّخين أنّ أيّوب من ذرّيّة ( ناحور ) أخي إبراهيم . وبعضهم ظنّ أنّه ابن حفيد عيسو بننِ إسحاق بننِ إبراهيم ، وفي كتابه أنّ أيّوب كان ساكناً بأرض عُوص ( وهي أرض حَوران بالشّام ، وهي منازل بني عوص بن إرَم بن سام بن نوح ، وهم أصول عاد ) وكانت مجاورة لحدود بلاد الكلدان ، وقد ورد ذكر الكلدان في كتاب أيّوب وبعض المحقّقين يظنّ أنّه من صنف عَربي وأنّه من عُوص ، كما يدلّ عليه عدم التّعرض لنسبته في كتابه ، والاقتصار على أنّه كان بأرض عوص ( الذين هم من العرب العاربة ) . وزعموا أنّ كلامه المسطور في كتابه كان بلغة عربيّة ، وأنّ موسى عليه السلام نقله إلى العبرانيّة . وبعضهم يظنّ أنّ الكلام المنسوب إليه كان شِعراً ترجمه موسى في كتابه وأنّه أوّل شعر عرف باللّغة العربيّة الأصليّة . وبعضهم يقول : هو أوّل شعر عرفه التّاريخ ، ذلك لأنّ كلامه وكلام أصحابه الثّلاثة الّذين عَزّوه على مصائبه جَارٍ على طريقة شعريّة لا محالة .
ويوسف هو ابن يعقوب ويأتي تفصيل ترجمته في سورة يوسف .
وموسى وهارون وزكرياء تقدّمت تراجمهم في سورة البقرة .
وترجمة عيسى تقدّمت في سورة البقرة وفي سورة آل عمران .
ويحيى تقدّمت ترجمته في آل عمران .
وقوله : { وكذلك نجزي المحسنين } اعتراض بين المتعاطفات ، والواو للحال ، أي وكذلك الوهْب الّذي وهبنا لإبراهيم والهدي الّذي هدينا ذرّيّته نجزي المحسنين مثله ، أو وكذلك الهدي الّذي هدينا ذرّيّة نوح نجزي المحسنين مثل نوح ، فعلم أنّ نوحاً أو إبراهيم من المحسنين بطريق الكناية ، فأمّا إحسان نوح فيكون مستفاداً من هذا الاعتراض ، وأمّا إحسان إبراهيم فهو مستفاد ممّا أخبر الله به عنه من دعوته قومه وبذله كلّ الوسع لإقلاعهم عن ضلالهم .
ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الهدي المأخوذ من قوله : { هدينا } الأول والثّاني ، أي وكذلك الهدي العظيم نجزي المحسنين ، أي بمثله ، فيكون المراد بالمحسنين أولئك المهديّين من ذرّيّة نوح أو من ذرّيّة إبراهيم . فالمعنى أنّهم أحسنوا فكان جزاء إحسانهم أن جعلناهم أنبياء .