اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (84)

في " وهبنا " وجهان :

أصحهما : أنها مَعْطُوفةٌ على الجملة الاسمية من قوله : " وتِلْكَ حُجَّتُنَا " وعطف الاسْمِيَّة على الفعلية وعكسه جائز .

والثاني : أجازه ابن عطيَّة{[14408]} ، وهو أن يكون نَسَقاً علت " آتَيْنَاهَا " ورَدَّهُ أبُو حيَّان{[14409]} بأن " آتَيْنَاهَا " لها مَحَلٌّ من الإعراب ، إمَّا الخبر وإمَّا الحال ، وهذه لا مَحَلَّ لها ؛ لأنها لو كانت مَعْطُوفَةً على الخَبَر أو الحال لاشترط فيها رابط ، و " كُلاً " مَنْصُوبٌ ب " هَدَيْنَا " بعده . والتقدير : وكلّ واحدٍ من هؤلاء المذكورين .

فصل في المراد بالهداية

اختلفوا في المُرادِ بهذه الهداية ، وكذا في قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } وقوله في آخر الآيات { ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ } قال بعض المُحَقَّقين{[14410]} : المُرَادُ بهذه الهداية الثَّوابُ العظيم ، وهو الهداية إلى طريق الجنَّةِ ؛ لقوله بعده { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } وجزاء المحسنين هو الثواب ، وأمَّا الإرشاد إلى الدين ، فلا يكون جَزَاءً على عَمَلِهِ .

وقيل : لا يَبْعُدُ أن يكون المُرَادُ الهدايةَ إلى الدِّينِ ، وإنما كان جَزاءً على الإحسان الصادر منهم ؛ لأنهم اجْتَهَدُوا في طَلَبِ الحقِّ ، فاللَّهُ -تعالى- جَازَاهُمْ على حُسْنِ طلبهم بإيصالهم إلى الحقِّ ، كقوله { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت :69 ] .

وقيل : المُرَادُ بهذه الهداية الإرْشَادُ إلى النُّبُوَّةِ والرسالة ؛ لأن الهداية المَخْصُوصَةَ بالأنبياء ليست إلاَّ ذلك .

فإن قيل : لو كان كذلك لكان قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يقتضي أن تكون الرِّسَالةُ جزاءً على عملٍ ، وذلك باطلٌ .

فالجوابُ أنَّ قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يحمل على الجزاءِ الذي هو الثَّوابُ ، فيزول الإشْكَالُ .

واعلم أنَّهُ -تعالى- لمَّا حَكى عن إبراهيم أنه أظْهَرَ حُجَّةَ اللَّهِ في التوحيد ، وذَبَّ عنها عدَّدَ وجوه نعمِهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ .

فأوّلها : قوله :

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } أي : نحن آتَيْنَاهُ تلك الحُجَّةَ ، وهديناه إليها ، وأفَقْنَا عَقْلَهُ على حقيقتها ، وذكر نَفْسَهُ باللفظ الدَّالِّ على العظمةِ [ وذلك يوجب ] أن تكون تلك النعمة عظيمة .

وثانيها : أنه -تعالى- خَصَّهُ بالرِّفْعَةِ إلى الدَّرجاتِ العالية ، وهو قوله : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ } .

وثالثها : أنه -تعالى- جَعَلهُ عَزيزاً في الدُّنْيَا ؛ لأنه جُعِلَ للأنبياء والداً ، والرُّسُلُ من نَسْلِهِ ومن ذُرَّيَّتِهِ ، وأبقى هذه الكَرَامَةَ في نَسْلِه إلى يوم القيامةِ فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } لِصُلْبِهِ و " يَعْقُوبَ " بعده من إسحاق .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر إسماعيل - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع إسحاق ، بل أخَّرَ ذِكْرَهُ [ عنه ]{[14411]} بدرَجَاتٍ ؟

فالجوابُ : أن المقصود بالذِّكْرِ هاهنا أنبياء بني إٍسرائيل ، وهم بِأسْرِهِمْ أولاد إسحاق .

وأمَّا إسماعيلُ فإنه لم يخرج من صُلْبِهِ نَبِيُّ إلاَّ محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام ، [ ولا يجوز ذكر محمد - عليه الصلاة والسلام - في هذا المقام ؛ لأنه تعالى أمر محمداً ]{[14412]} أن يحتجَّ على العربِ في نفي الشِّرْكِ باللَّهِ بأنَّ إبراهيم لمَّا تركَ الشرك وأصَرَّ على التَّوحيدِ رَزَقَهُ اللَّهُ النِّعَمَ العظيمة في الدنيا بأن آتاه أوْلاداً كانوا أنبياء ومُلُوكاً ، فإذا كان المحتج بهذه الحُجَّةِ هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - امتنع أن يذكر في هذا المعرض .

فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق .

قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } فالمُرَادُ أنَّهُ -تعالى- جعل إبراهيم في أشْرَفِ الأنْسَابِ ؛ لأنه رَزَقَهُ أوْلاداً مثل إسحاق ويعقوب ، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نَسْلِهِمَا ، وأخرجه من أصْلابِ آباءٍ طَاهِرينَ مثل " نوح " و " شيث " و " إدريس " ، والمقصود بيانُ كرامَةِ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بحسب الأولاد والآباء .

قوله : " من ذُرِّيتِهِ " " الهاء " فيها وجهان :

أحدهما : أنها تعود على نُوح ؛ لأنه أقْرَبُ مذكورٍ ، ولأنَّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم مَنْسُوبُون إليه ، [ ولأنه ذكر من جملتهم لُوطاً ، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته ، ذكره مَكِّي وغيره ، وما كان من ذُرِّيَّتِهِ ، بل كان من ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عليه السلام ، وكان رسولاً في زمن إبراهيم .

وأيضاً : يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم .

وأيضاً قيل : إنَّ ولد الإنسان لا يُقالُ : إنَّهُ ذُرِّيَّةٌ ، فعلى هذا إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم ]{[14413]} .

الوجه الثاني : أنها تعود على إبراهيم ؛ لأنه المحدث عنه والقِصَّةٌ مَسُوقَةٌ إلى ذكره وخبره ، وإنما ذكر نوحاً ، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رَفْعِهِ إبراهيم .

ولكن رُد‍َّ هذا القَوْلُ بما تقدَّم من كون لوط ليس من ذُرِّيَّتِهِ إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي{[14414]} وغيره .

وقد أجيب عن ذلك ، فقال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مُضَافُونَ إلى ذُرِّيَّةِ إبراهيم ، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادةٍ من قبلِ أمٍّ ولا أبٍ ؛ لأن لُوطاً ابن أخي إبراهيم ، والعربُ تجعلُ العَمَّ أباً ، كما أخبر اللَّهُ -تعالى- عن ولدِ " يعقوب " أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }

[ البقرة :133 ] .

وقال أبو سليمان الدِّمَشْقِيُّ : " ووهَبْنَا لَهُ لُوطاً " في المُعَاضَدَةِ والمُناصَرَةِ ، فعلى هذا يكون " لوطاً " منصوباً ب " وَهْبَنَا " من غير قَيْدٍ ؛ لكونه من ذُرِّيَّتِهِ .

وقوله : " داود " وما عطف عليه مَنْصُوبٌ إما بفعل الهِبَةِ ، وإما بفعل الهداية .

و " مِنْ ذُرِّيَّتِهِ " يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف ، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية .

والثاني : أنها حال أي : حال كون هؤلاء الأنبياء مَنْسُوبِينَ إليه .

قوله : " وكذَلِكَ نَجْزِي " الكاف في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : نجزيهم جَزَاءً مِثْلَ ذلك الجَزَاء ، ويجوز أن يكون في مَحَلِّ رفع ، أي الأمر كذلك ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : " وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ " .

ومعنى " كذلك " أي : كما جزينا إبراهيم على تَوْحِيدِهِ بأن رفعنا درجته ، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتْقِيَاءَ ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم .

فصل في بيان نسب بعض الأنبياء

" داود " ابن إيشا .

و " سليمان " هو ابنه .

و " أيوب " ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم .

و " يوسف " ابن يَعْقُوبَ بن إسحاق بن إبراهيم .

و " موسى " ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب .

و " هارون " أخو موسى أكبر منه بِسَنَةٍ ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم .

واعلم أنه -تعالى- ذكر أوَّلاً أربعة من الأنبياء ، وهم : " نوح " و " إبراهيم " و " إسحاق " و " يعقوب " ، ثم ذكر من ذُرِّيَّتِهِمْ أربعة عشر من الأنبياء : " داود " و " سليمان " و " أيُّوب " ، و " يوسف " ، و " موسى " ، و " هارون " و " زكريا " ، و " يحيى " ، و " عيسى " ، و " إلياس " ، و " إسماعيل " ، و " إليسع " ، و " يونس " ، و " لوطاً " .

فإن قيل : رعاية التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ ، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفَضْلِ والدرجة ، وإما أن يعتبر بحسبِ الزمان ، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السَّبَبُ فيه ؟

فالجوابُ أن " الواو " لا توجب التَّرْتِيبَ ، وهذه الآية أحَدُ الدلائل على صِحَّةِ هذا المطلوب .


[14408]:ينظر: المحرر الوجيز 2/316.
[14409]:ينظر: البحر المحيط 4/176.
[14410]:ينظر: الرازي 13/54.
[14411]:سقط في أ.
[14412]:سقط في أ.
[14413]:سقط في ب.
[14414]:ينظر: المشكل 275.