أصحهما : أنها مَعْطُوفةٌ على الجملة الاسمية من قوله : " وتِلْكَ حُجَّتُنَا " وعطف الاسْمِيَّة على الفعلية وعكسه جائز .
والثاني : أجازه ابن عطيَّة{[14408]} ، وهو أن يكون نَسَقاً علت " آتَيْنَاهَا " ورَدَّهُ أبُو حيَّان{[14409]} بأن " آتَيْنَاهَا " لها مَحَلٌّ من الإعراب ، إمَّا الخبر وإمَّا الحال ، وهذه لا مَحَلَّ لها ؛ لأنها لو كانت مَعْطُوفَةً على الخَبَر أو الحال لاشترط فيها رابط ، و " كُلاً " مَنْصُوبٌ ب " هَدَيْنَا " بعده . والتقدير : وكلّ واحدٍ من هؤلاء المذكورين .
اختلفوا في المُرادِ بهذه الهداية ، وكذا في قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } وقوله في آخر الآيات { ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ } قال بعض المُحَقَّقين{[14410]} : المُرَادُ بهذه الهداية الثَّوابُ العظيم ، وهو الهداية إلى طريق الجنَّةِ ؛ لقوله بعده { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } وجزاء المحسنين هو الثواب ، وأمَّا الإرشاد إلى الدين ، فلا يكون جَزَاءً على عَمَلِهِ .
وقيل : لا يَبْعُدُ أن يكون المُرَادُ الهدايةَ إلى الدِّينِ ، وإنما كان جَزاءً على الإحسان الصادر منهم ؛ لأنهم اجْتَهَدُوا في طَلَبِ الحقِّ ، فاللَّهُ -تعالى- جَازَاهُمْ على حُسْنِ طلبهم بإيصالهم إلى الحقِّ ، كقوله { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت :69 ] .
وقيل : المُرَادُ بهذه الهداية الإرْشَادُ إلى النُّبُوَّةِ والرسالة ؛ لأن الهداية المَخْصُوصَةَ بالأنبياء ليست إلاَّ ذلك .
فإن قيل : لو كان كذلك لكان قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يقتضي أن تكون الرِّسَالةُ جزاءً على عملٍ ، وذلك باطلٌ .
فالجوابُ أنَّ قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يحمل على الجزاءِ الذي هو الثَّوابُ ، فيزول الإشْكَالُ .
واعلم أنَّهُ -تعالى- لمَّا حَكى عن إبراهيم أنه أظْهَرَ حُجَّةَ اللَّهِ في التوحيد ، وذَبَّ عنها عدَّدَ وجوه نعمِهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ .
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } أي : نحن آتَيْنَاهُ تلك الحُجَّةَ ، وهديناه إليها ، وأفَقْنَا عَقْلَهُ على حقيقتها ، وذكر نَفْسَهُ باللفظ الدَّالِّ على العظمةِ [ وذلك يوجب ] أن تكون تلك النعمة عظيمة .
وثانيها : أنه -تعالى- خَصَّهُ بالرِّفْعَةِ إلى الدَّرجاتِ العالية ، وهو قوله : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ } .
وثالثها : أنه -تعالى- جَعَلهُ عَزيزاً في الدُّنْيَا ؛ لأنه جُعِلَ للأنبياء والداً ، والرُّسُلُ من نَسْلِهِ ومن ذُرَّيَّتِهِ ، وأبقى هذه الكَرَامَةَ في نَسْلِه إلى يوم القيامةِ فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } لِصُلْبِهِ و " يَعْقُوبَ " بعده من إسحاق .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر إسماعيل - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع إسحاق ، بل أخَّرَ ذِكْرَهُ [ عنه ]{[14411]} بدرَجَاتٍ ؟
فالجوابُ : أن المقصود بالذِّكْرِ هاهنا أنبياء بني إٍسرائيل ، وهم بِأسْرِهِمْ أولاد إسحاق .
وأمَّا إسماعيلُ فإنه لم يخرج من صُلْبِهِ نَبِيُّ إلاَّ محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام ، [ ولا يجوز ذكر محمد - عليه الصلاة والسلام - في هذا المقام ؛ لأنه تعالى أمر محمداً ]{[14412]} أن يحتجَّ على العربِ في نفي الشِّرْكِ باللَّهِ بأنَّ إبراهيم لمَّا تركَ الشرك وأصَرَّ على التَّوحيدِ رَزَقَهُ اللَّهُ النِّعَمَ العظيمة في الدنيا بأن آتاه أوْلاداً كانوا أنبياء ومُلُوكاً ، فإذا كان المحتج بهذه الحُجَّةِ هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - امتنع أن يذكر في هذا المعرض .
فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق .
قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } فالمُرَادُ أنَّهُ -تعالى- جعل إبراهيم في أشْرَفِ الأنْسَابِ ؛ لأنه رَزَقَهُ أوْلاداً مثل إسحاق ويعقوب ، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نَسْلِهِمَا ، وأخرجه من أصْلابِ آباءٍ طَاهِرينَ مثل " نوح " و " شيث " و " إدريس " ، والمقصود بيانُ كرامَةِ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بحسب الأولاد والآباء .
قوله : " من ذُرِّيتِهِ " " الهاء " فيها وجهان :
أحدهما : أنها تعود على نُوح ؛ لأنه أقْرَبُ مذكورٍ ، ولأنَّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم مَنْسُوبُون إليه ، [ ولأنه ذكر من جملتهم لُوطاً ، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته ، ذكره مَكِّي وغيره ، وما كان من ذُرِّيَّتِهِ ، بل كان من ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عليه السلام ، وكان رسولاً في زمن إبراهيم .
وأيضاً : يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم .
وأيضاً قيل : إنَّ ولد الإنسان لا يُقالُ : إنَّهُ ذُرِّيَّةٌ ، فعلى هذا إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم ]{[14413]} .
الوجه الثاني : أنها تعود على إبراهيم ؛ لأنه المحدث عنه والقِصَّةٌ مَسُوقَةٌ إلى ذكره وخبره ، وإنما ذكر نوحاً ، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رَفْعِهِ إبراهيم .
ولكن رُدَّ هذا القَوْلُ بما تقدَّم من كون لوط ليس من ذُرِّيَّتِهِ إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي{[14414]} وغيره .
وقد أجيب عن ذلك ، فقال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مُضَافُونَ إلى ذُرِّيَّةِ إبراهيم ، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادةٍ من قبلِ أمٍّ ولا أبٍ ؛ لأن لُوطاً ابن أخي إبراهيم ، والعربُ تجعلُ العَمَّ أباً ، كما أخبر اللَّهُ -تعالى- عن ولدِ " يعقوب " أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }
وقال أبو سليمان الدِّمَشْقِيُّ : " ووهَبْنَا لَهُ لُوطاً " في المُعَاضَدَةِ والمُناصَرَةِ ، فعلى هذا يكون " لوطاً " منصوباً ب " وَهْبَنَا " من غير قَيْدٍ ؛ لكونه من ذُرِّيَّتِهِ .
وقوله : " داود " وما عطف عليه مَنْصُوبٌ إما بفعل الهِبَةِ ، وإما بفعل الهداية .
و " مِنْ ذُرِّيَّتِهِ " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف ، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية .
والثاني : أنها حال أي : حال كون هؤلاء الأنبياء مَنْسُوبِينَ إليه .
قوله : " وكذَلِكَ نَجْزِي " الكاف في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : نجزيهم جَزَاءً مِثْلَ ذلك الجَزَاء ، ويجوز أن يكون في مَحَلِّ رفع ، أي الأمر كذلك ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : " وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ " .
ومعنى " كذلك " أي : كما جزينا إبراهيم على تَوْحِيدِهِ بأن رفعنا درجته ، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتْقِيَاءَ ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم .
و " أيوب " ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم .
و " يوسف " ابن يَعْقُوبَ بن إسحاق بن إبراهيم .
و " موسى " ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب .
و " هارون " أخو موسى أكبر منه بِسَنَةٍ ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم .
واعلم أنه -تعالى- ذكر أوَّلاً أربعة من الأنبياء ، وهم : " نوح " و " إبراهيم " و " إسحاق " و " يعقوب " ، ثم ذكر من ذُرِّيَّتِهِمْ أربعة عشر من الأنبياء : " داود " و " سليمان " و " أيُّوب " ، و " يوسف " ، و " موسى " ، و " هارون " و " زكريا " ، و " يحيى " ، و " عيسى " ، و " إلياس " ، و " إسماعيل " ، و " إليسع " ، و " يونس " ، و " لوطاً " .
فإن قيل : رعاية التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ ، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفَضْلِ والدرجة ، وإما أن يعتبر بحسبِ الزمان ، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السَّبَبُ فيه ؟
فالجوابُ أن " الواو " لا توجب التَّرْتِيبَ ، وهذه الآية أحَدُ الدلائل على صِحَّةِ هذا المطلوب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.