نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (84)

ولما أشار إلى رفعته بأنه بصّره بالحجة{[30196]} حتى كان على بصيرة من أمره ، وأنه علا{[30197]} على المخالفين برفع الدرجات ، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب ، فقال معلماً بأنه جعله عزيزاً في الدنيا لأن{[30198]} أشرف الناس الأنبياء والرسل ، وهم من نسله وذريته ، ورفع ذكره أبداً لأجل{[30199]} قيامه بالذب عن توحيده : { ووهبنا له } أي لخليلنا{[30200]} عليه السلام بما لنا من العظمة { إسحاق } ولداً{[30201]} له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته { ويعقوب } أي ولد ولد ، وابتدأ سبحانه بهما لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام ، وهو أشد سروراً بابنه{[30202]} الذي متع{[30203]} به ولم يؤمر{[30204]} بفراقه وابن ابنه{[30205]} الذي أكثر{[30206]} الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه ، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر إبراهيم عليه السلام ومختاره للسكنى بنفسه ونسله ، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها{[30207]} من الشرك وعبادة الأوثان ، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته . {[30208]}

ولما كانت النعمة لا تتم إلاّ بالهداية ، قال مستأنفاً مقدماً للمفعول ليشمل الكلام إياهما{[30209]} : { كلاًّ } أي منهما ومن أبيهما{[30210]} { هدينا } ثم أتبع ذلك المهتدين قديماً وحديثاً تأكيداً لأن هذا المذهب لم يزل{[30211]} خلص العباد{[30212]} دعاة إليه في قديم الزمان وجديده ، فكأنه يقول : إن كنتم تلزمون دينكم لأنه عندكم حق ، فقد تبين لكم{[30213]} بطلانه ، وأن الحق إنما هو التوحيد ، وإن كنتم تلزمونه لِقِدَمِه فهذا الدين - الذي{[30214]} - دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته - هو القديم الذي دعاكم إليه نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى إبراهيم{[30215]} أبيكم الأعظم و{[30216]} من بعده من خلص ذريته إلى عيسى ، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم وبشارة عيسى - على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم ، فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية{[30217]} والأقدمية ، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في أبائكم مثل إبراهيم عليه السلام ، وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم ، فهو أولى آبائكم أن تعتدوا{[30218]} به - والله الموفق .

ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من إسحاق وابنه بتربية أبيه{[30219]} ، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو نوح عليهما السلام لدفع ذلك ، ولأن السياق لإنكار الأوثان ، وهو أول من نهى عن عبادتها ، وهو أجلّ آباء الخليل عليه السلام فقال : { ونوحاً هدينا } أي بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج .

ولما كانت لم تتجاوز منه ، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم ، أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيراً عن زمانه فقال : { من قبل } أي ولم تكن هدايته إلاّ بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل ، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد ، وطالما دعاهم إلى الله وربّاهم فلم يرجع منهم كثيراً{[30220]} أحد{[30221]} حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده ، و{[30222]} لمثل ذلك{[30223]} فصل بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه عليهم السلام إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة ، وأنه ما{[30224]} حفظ كلاًّ منهما على سنن الهدى طول المدى إلاّ الله{[30225]} ؛ ثم ابتدأ المذكورين{[30226]} بعدُ بمن بنى على يده ويد ابنه مسجداً هو بعد المسجد الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فقال : { ومن ذريته } .

ولما كان السياق كله لمدح الخليل ، وكان المذكورون - إلا لوطاً - من نسله ، وكان التغليب مستعملاً{[30227]} شائعاً في لسان العرب ، لا سيما ولوط ابن أخيه ومثل ولده ؛ حكم بأن الضمير لإبراهيم عليه السلام ، وقولُ من قال : إن يونس عليه السلام ليس من نسله ، غير صحيح ، بل هو من بني إسرائيل ، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء ، وسيأتي خبره من{[30228]} السفر المذكور في سورة { والصافات } إن شاء الله تعالى ، وقد صرح أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية إبراهيم ، واقتضى{[30229]} كلامه أنه من بني إسرائيل ، كما اقتضى ذلك كلام البغوي في سورة الأنبياء عليهم السلام ، وأما أيوب فروى{[30230]} ؛ من نسل عيص بن{[30231]} إسحاق عليهم السلام { داود } أي هديناه { وسليمان } أي اللذين بنيا بيت المقدس بأمر الله{[30232]} : داود بخطه وتأسيسه ، وسليمان بإكماله وتشييده .

ولما كانا{[30233]} مع ذلك ملكين ، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال : { وأيوب } وقدمه لمناسبة ما بينه وبين سليمان{[30234]} في أن{[30235]} كلاًّ منهما ابتلى بأخذ كل ما في يده ثم ردّ{[30236]} الله إليه { ويوسف } وكل من هؤلاء الأربعة ابتلى فصبر ، واغتنى{[30237]} فشكر ، وأيوب إن لم يكن ملكاً فقد كانت ثروته غير مقصرة{[30238]} عن{[30239]} ثروة الملوك ، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير الهكاري{[30240]} - فيما أظن - أنه صرح بأنه ملك{[30241]} ، وأيضاً{[30242]} فالاثنان{[30243]} الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل{[30244]} الفلسطين ، والاثنان{[30245]} الباقيان كل منهما{[30246]} ابتلى بفراق أهله ثم ردوا عليه : أيوب بعد أن ماتوا ، ويوسف قبل الموت ، وأيضاً فداود عليه السلام شارك إبراهيم عليه السلام في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاءُ في غار ، وذلك أن نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها ، وقال له منجموه : يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض ، ويكون هلاكك على يده ، فأمر بذبح كل غلام في{[30247]} ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وحملت أم إبراهيم عليه السلام به{[30248]} في تلك السنة ، فلما وجدت الطلق خرجت ليلاً إلى غار قريب منها فولدت فيه إبراهيم وأصلحت من شأنه{[30249]} ، ثم سدت فم الغار ورجعت ، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص{[30250]} إبهامه ، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي{[30251]} الشهر كالسنة ؛ وأما داود عليه السلام فإنه لما قتل جالوت{[30252]} وزوَّجَه طالوتُ ابنته ، وناصفه ملكه - على ما كان شرط لمن قتل جالوت{[30253]} - مال إليه الناس وأحبوه ، فحسده فأراد قتله ، فطلبه فهرب منه ، فدخل غاراً فنسجت{[30254]} عليه العنكبوت ، فقال طالوت : لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت ، فأنجاه الله منه ؛ وتلاه بسليمان{[30255]} لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك إبراهيم عليهما السلام في إبطال عبادة الشمس في قصة بلقيس رضي الله عنها ؛ وقصة يوسف عليه السلام في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى

يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار{[30256]} }[ يوسف : 39 ] .

ولما كان يوسف عليه السلام ممن أعلى الله كلمته على كلمة{[30257]} ملك مصر وأعز ملكها و{[30258]} أهلها{[30259]} وأحياهم به ، أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك مصر وأهلها وأهلكهم بهما ، فكأن{[30260]} بعض قصصهم{[30261]} وفاق ، وبعضها تقابل وطباق ، فقال : { وموسى وهارون } ولما كان التقدير : هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى ، لم يشغل{[30262]} أحداً منهم منحةُ السراء ولا محنة{[30263]} الضراء ، عطف عليه قوله : { وكذلك } أي ومثل ما جزيناهم { نجزي المحسنين * } أي كلهم ، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة ، وهي أنهم من أهل السراء{[30264]} المطفئة{[30265]} والضراء المسنية{[30266]} ، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا{[30267]} ولم ينوا .


[30196]:سقط من ظ.
[30197]:في ظ: علاه.
[30198]:من ظ، وفي الأصل: لأنه.
[30199]:من ظ، وفي الأصل: لأجله.
[30200]:في ظ: خليلنا.
[30201]:من ظ، وفي الأصل: أولدا.
[30202]:في ظ: يأتيه.
[30203]:في ظ: يقع.
[30204]:في ظ: لم يأمر.
[30205]:في ظ: أبيه.
[30206]:من ظ، وفي الأصل: الأكثر.
[30207]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[30208]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[30209]:في ظ: اباهما.
[30210]:من ظ، وفي الأصل: انهما.
[30211]:في ظ: لم تزل.
[30212]:في ظ: العبادة.
[30213]:زيد من ظ.
[30214]:زيد من ظ.
[30215]:زيد بعده في ظ: هو.
[30216]:زيد من ظ.
[30217]:في ظ: الحقيقة.
[30218]:من ظ، وفي الأصل: يعتدوا.
[30219]:زيد من ظ.
[30220]:في ظ: كثير.
[30221]:زيد من ظ.
[30222]:في ظ: لذلك.
[30223]:في ظ: لذلك.
[30224]:من ظ، وفي الأصل: لا.
[30225]:من ظ، وفي الأصل: أبيه- كذا.
[30226]:من ظ، وفي الأصل: المذكورون.
[30227]:سقط من ظ.
[30228]:من ظ، وفي الأصل: في.
[30229]:من ظ، وفي الأصل: اقتص.
[30230]:من ظ، وفي الأصل: فرد.
[30231]:زيد من ظ.
[30232]:في ظ: اله.
[30233]:في ظ: كان.
[30234]:من ظ، وفي الأصل: بان.
[30235]:من ظ، وفي الأصل: بان.
[30236]:كذا في الأصل، وفي ظ: رده.
[30237]:من ظ، وفي الأصل: أغمى- كذا.
[30238]:من ظ، وفي الأصل: مقصورة.
[30239]:زيد من ظ.
[30240]:من ظ، وفي الأصل: المكاري، والمنسوب إلى هذه النسبة ثلاثة– راجع معجم المؤلفين.
[30241]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[30242]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[30243]:من ظ، وفي الأصل: الابنان.
[30244]:من ظ، وفي الأصل: ذي- كذا.
[30245]:من ظ، وفي الأصل: الأمان.
[30246]:في ظ: منهم.
[30247]:في ظ: من.
[30248]:سقط من ظ.
[30249]:من ظ، وفي الأصل: شانها.
[30250]:في ظ: يمص.
[30251]:سقط من ظ.
[30252]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[30253]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[30254]:في ظ: نسجت.
[30255]:من ظ، وفي الأصل: سليمان.
[30256]:سورة 12 آية 39.
[30257]:زيد من ظ.
[30258]:زيد من ظ.
[30259]:زيد بعده في الأصل: أهلكهم، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها، والعبارة من هنا إلى "أهلكهم بهما" ساقطة منه.
[30260]:من ظ، وفي الأصل: بين قصتهم.
[30261]:من ظ، وفي الأصل: بين قصتهم.
[30262]:في ظ: لم يشتغل.
[30263]:في ظ: منحة.
[30264]:من ظ، وفي الأصل: السر.
[30265]:في ظ: المطيعة.
[30266]:في ظ: المهه- كذا
[30267]:من ظ، وفي الأصل: لم يقروا.