ألا تطغوا : لئلا تتجاوزوا فيه الحق .
ولا تُخسروا الميزان : ولا تنقصوه .
8 ، 9- { أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } .
أي : أنزل الله الميزان إلى الأرض ، وقال ابن عباس : المراد بالميزان ما تعرف به مقادير الأشياء ، وهو الآلة المسماة بهذا الاسم ، أي أوجده في الأرض ليضبط الناس في معاملاتهم في أخذهم وعطائهم .
{ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } .
الطغيان : تجاوز الحد والنََّصفة ، وهذه الآية كالتعليل لما سبقها .
أي : أنزل الميزان حتى لا يطغى إنسان على أخيه ، فيظلمه ولا ينصفه ، كما يجب الوزن بالعدل ، والبيع والشراء بالقسط ، وعدم تجاوز الحدود ، وعدم تطفيف الكيل والميزان .
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } .
أي : قوّموا وزنكم بالعدل ، ولا تنقصوه ولا تبخسوه شيئا ، بل زِنوا بالحق والقسط ، كما قال تعالى : وزنوا بالقسطاس المستقيم . ( الشعراء : 182 ) .
وقد تكرر الأمر بالعدل والتوصية به والحث عليه لأهميته ، وللتنبيه على شدة عناية الله تعالى بإقامة العدل بين الناس في معاملاتهم وفي سائر شؤونهم ، إذ بدونه لا يستقيم لهم حال ، ولا يستقر لهم قرار ، فقد أمر سبحانه بالتسوية والعدل ، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحدّ ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس .
وقال قتادة في الآية : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يُعدل لك ، وأوْفِ كما تحب أن يوفّى لك ، فإن في العدل صلاح الناس .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . . . } ( الحديد : 25 ) .
{ وأقيموا الوزن بالقسط } قوموا وزنكم بالعدل . والمراد : حث الإنسان على مراعاته في جميع أقواله وأفعاله . { ولا تخسروا الميزان } أي لا تنقصوه ؛ فإن من حقه أن يسوى . أمر الله تعالى بالتسوية ، ونهى عن الطغيان فيه الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران فيه الذي هو تطفيف ونقصان ؛ وكلاهما ظلم . وكرر لفظ " الميزان " تشديدا للتوصية به ، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه .
{ وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } قوموا وزنكم بالعدل ، وقال الراغب : هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال ، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء ، وقال سفيان بن عيينة : الإقامة باليد ، والقسط بالقلب ، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية ، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب ، وجعل بعضهم { لا } في الأولى مطلقاً ناهية حرصاً على التوافق { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ { الميزان } بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديداً للتوصية وتأكيداً للأمر باستعماله والحث عليه ، بل في الجمل الثلاث تكرار مّا معنى لذلك ، وقرئ { وَلاَ تُخْسِرُواْ } بفتح التاء وضم السين ، وقرأ زيد بن علي . وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين .
وحكى ابن جني . وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما ، وخرّج ذلك الزمخشري على أن الأصل ولا تخسروا في الميزان فحذف الجار ، وأوصل الفعل بناءاً على أنه لم يجيء إلا لازماً ، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعدياً كقوله تعالى : { خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } [ الأنعام : 12 ] { وَخَسِرَ الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال ، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعدياً هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه ، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال : إن قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه ، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسراً فيكون ممن قال سبحانه فيه : { مَنْ خَفَّتْ موازينه } [ القارعة : 8 ] وكلا المعنيين متلازمان ، وقيل : المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان ، أو جعل الميزان مجازاً عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل .
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى وهو التزام العدل تأكيدا صريحا فقال : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } .
وقوله : { وَأَقِيمُواْ } من الإقامة ، والمراد به الإتيان بالشىء على أكمل صورة ، ومنه قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الصلاة . . } أى : أدوها كاملة الأركان والسنن والخشوع .
والقسط : العدل ، يقال : أقسط فلان فى حكمه ، إذا عدل ، والباء للمصاحبة .
وقوله : { وَلاَ تُخْسِرُواْ } من الإخسار بمعنى النقص والبخس والجور .
والمعنى : شرع الله العدل ، ونهاكم عن تجاوزه ، وأمركم أن تقيموا حياتكم عليه فى أوزانكم التى تتعاملون بها فيما بينكم ، وفى كل أحوالكم ، فاحذروا أن تخالفوا أمره . . .
وكرر - سبحانه - لفظ " الميزان " للتنبيه على شدة عناية الله - تعالى - بإقامة العدل بين الناس فى معاملاتهم ، وفى سائر شئونهم ، إذ بدونه لا يستقيم لهم حال ، ولا يصلح لهم بال ، ولا يستقر لهم قرار . . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وأقِيمُوا الوَزْنَ بالقِسْطِ" يقول: وأقيموا لسان الميزان بالعدل. وقوله: "وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ" يقول تعالى ذكره: ولا تنقصوا الوزن إذا وزنتم للناس وتظلموهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وأقيموا الوزن بالمكيال الذي تحبون أن تُكَالوا به، وعلى الوصف الذي ترجون أن تنالوا به مطعمكم ومشربكم دون تطفيف...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} وقوّموا وزنكم بالعدل {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان}[...] أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرّر لفظ الميزان: تشديداً للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«ولا تُخسروا» من أخسر، أي نقص وأفسد...
{وأقيموا الوزن بالقسط} يحتمل وجهين:
(أحدهما) أقيموا بمعنى قوموا به كما في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي قوموا بها دواما، لأن الفعل تارة يعدى بحرف الجر، وتارة بزيادة الهمزة، تقول: أذهبه وذهب به.
(ثانيها) أن يكون أقيموا بمعنى قوموا، يقال: في العود أقمته وقومته، والقسط العدل...
والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات كل مرة بمعنى آخر، فالأول هو الآلة {ووضع الميزان}، والثاني بمعنى المصدر {ألا تطغوا في الميزان} أي الوزن، والثالث للمفعول: {ولا تخسروا الميزان} أي الموزون، وذكر الكل بلفظ الميزان لما بينا أن الميزان أشمل للفائدة،...
فإن قيل: ما الفائدة في تقديم السماء على الفعل حيث قال: {والسماء رفعها} وتقديم الفعل على الميزان حيث قال: {ووضع الميزان}؟ نقول: قد ذكرنا مرارا أن في كل كلمة من كلمات الله فوائد لا يحيط بها علم البشر إلا ما ظهر والظاهر هاهنا أنه تعالى لما عد النعم الثمانية كما بينا وكان بعضها أشد اختصاصا بالإنسان من بعض فما كان شديد الاختصاص بالإنسان قدم فيه الفعل، كما بينا أن الإنسان يقول: أعطيتك الألوف وحصلت لك العشرات، فلا يصرح في القليل بإسناد الفعل إلى نفسه، وكذلك يقول: في النعم المختصة، أعطيتك كذا، وفي التشريك وصل إليك مما اقتسمتم بينكم كذا، فيصرح بالإعطاء عند الاختصاص، ولا يسند الفعل إلى نفسه عند التشريك، فكذلك هاهنا ذكر أمورا أربعة بتقديم الفعل، قال تعالى: {علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان} {ووضع الميزان} وأمورا أربعة بتقديم الاسم، قال تعالى: {والشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء رفعها، والأرض وضعها} لما أن تعليم القرآن نفعه إلى الإنسان أعود، وخلق الإنسان مختص به، وتعليمه البيان كذلك ووضع الميزان، كذلك لأنهم هم المنتفعون به الملائكة، ولا غير الإنسان من الحيوانات، وأما الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء والأرض فينتفع به كل حيوان على وجه الأرض وتحت السماء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فاقتدوا بأفعالي وتخلقوا بكل ما آمر به من أقوالي، عطف عليه قوله: {وأقيموا الوزن} أي جميع الأفعال التي يقاس لها الأشياء {بالقسط}. ولما كان المراد العدل العظيم، بينه بالتأكيد بعد الأمر بالنهي عن الضد فقال: {ولا تخسروا الميزان}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والوزن حقيقته: تحقيق تعادل الأجسام في الثقل، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس. ٍ والقسط: العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة: قسطاس، ومرة: قسط،... والباء للمصاحبة. والمعنى: اجعلوا العدل ملازماً لما تقوّمونه من أموركم...
قوله تعالى: {ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}، تنبيه للمؤمنين إلى أنهم ينبغي أن يتخلقوا بخلق الله، وأن يستمدوا من سنن الله الثابتة في خلقه منهاج سلوكهم في حياتهم، بالنسبة لأنفسهم وبالنسبة لبقية الناس، وذلك أن يقيموا حياتهم على أساس من الحكمة والعدل، وحسن التقدير والتدبير، حتى لا يلحقها خلل كبير أو صغير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وضرورة التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة «الميزان» ثلاث مرّات، لأنّ الحديث في المرحلة الأولى، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكلّ عالم الوجود. وفي المرحلة الثانية يتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كلّ موازين الحياة، سواء كانت الفردية أو الاجتماعية. وفي المرحلة الثالثة يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر...
وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للانسجام في الآيات المباركة، حيث تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس، والانتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل...
إنّ أهميّة الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتّى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والارتباك سوف تسود المجتمع البشري، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم الأوسع لهذه الكلمة، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ الاضطراب والفوضى ستكون بصورة أوسع وأشمل...