مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَقِيمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِيزَانَ} (9)

وقوله تعالى : { وأقيموا الوزن بالقسط } يدل على أن المراد من قوله : { ألا تطغوا في الميزان } هو بمعنى لا تطغوا في الوزن ، لأن قوله : { وأقيموا الوزن } كالبيان لقوله : { ألا تطغوا في الميزان } وهو الخروج عن إقامته بالعدل ، وقوله : { وأقيموا الوزن بالقسط } يحتمل وجهين : ( أحدهما ) أقيموا بمعنى قوموا به كما في قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } أي قوموا بها دواما ، لأن الفعل تارة يعدى بحرف الجر ، وتارة بزيادة الهمزة ، تقول : أذهبه وذهب به ( ثانيها ) أن يكون أقيموا بمعنى قوموا ، يقال : في العود أقمته وقومته ، والقسط العدل ، فإن قيل : كيف جاء قسط بمعنى جار لا بمعنى عدل ؟ نقول : القسط اسم ليس بمصدر ، والأسماء التي لا تكون مصادر إذا أتى بها آت أو وجدها موجد ، يقال فيها : أفعل بمعنى أثبت ، كما قال : فلان أطرف وأتحف وأعرف بمعنى جاء بطرفة وتحفة وعرف ، وتقول : أقبض السيف بمعنى أثبت له قبضة ، وأعلم الثوب بمعنى جعل له علما ، وأعلم بمعنى أثبت العلامة ، وكذا ألجم الفرس وأسرج ، فإذا أمر بالقسط أو أثبته فقد أقسط ، وهو بمعنى عدل ، وأما قسط فهو فعل من اسم ليس بمصدر ، والاسم إذا لم يكن مصدرا في الأصل ، ويورد عليه فعل فربما يغيره عما هو عليه في أصله ، مثاله الكتف إذا قلت كتفته كتافا فكأنك قلت : أخرجته عما كان عليه من الانتفاع وغيرته ، فإن معنى كتفته شددت كتفيه بعضهما إلى بعض فهو مكتوف ، فالكتف كالقسط صارا مصدرين عن اسم وصار الفعل معناه تغير عن الوجه الذي ينبغي أن يكون ، وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقال : القاسط والمقسط ليس أصلهما واحدا وكيف كان يمكن أن يقال : أقسط بمعنى أزال القسط ، كما يقال : أشكى بمعنى أزال الشكوى أو أعجم بمعنى أزال العجمة ، وهذا البحث فيه فائدة فإن قول القائل : فلان أقسط من فلان وقال الله تعالى : { ذلكم أقسط عند الله } والأصل في أفعل التفضيل أن يكون من الثلاثي المجرد تقول : أظلم وأعدل من ظالم وعادل ، فكذلك أقسط كان ينبغي أن يكون من قاسط ، ولم يكن كذلك ، لأنه على ما بينا الأصل القسط ، وقسط فعل فيه لا على الوجه ، والإقساط إزالة ذلك ، ورد القسط إلى أصله ، فصار أقسط موافقا للأصل ، وأفعل التفضيل يؤخذ مما هو أصل لا من الذي فرع عليه ، فيقال : أظلم من ظالم لا من متظلم وأعلم من عالم لا من معلم ، والحاصل أن الأقسط وإن كان نظرا إلى اللفظ ، كان ينبغي أن يكون من القاسط ، لكنه نظرا إلى المعنى ، يجب أن يكون من المقسط ، لأن المقسط أقرب من الأصل المشتق وهو القسط ، ولا كذلك الظالم والمظلم ، فإن الأظلم صار مشتقا من الظالم ، لأنه أقرب إلى الأصل لفظا ومعنى ، وكذلك العالم والمعلم والخبر والمخبر .

ثم قال : { ولا تخسروا الميزان } أي لا تنقصوا الموزون . والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات كل مرة بمعنى آخر ، فالأول هو الآلة { ووضع الميزان } ، والثاني بمعنى المصدر { ألا تطغوا في الميزان } أي الوزن ، والثالث للمفعول : { ولا تخسروا الميزان } أي الموزون ، وذكر الكل بلفظ الميزان لما بينا أن الميزان أشمل للفائدة وهو كالقرآن ذكره الله تعالى بمعنى المصدر في قوله تعالى : { فاتبع قرآنه } وبمعنى المقروء في قوله : { إن علينا جمعه وقرآنه } وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى : { ولو أن قرءانا سيرت به الجبال } فكأنه آلة ومحل له ، وفي قوله تعالى : { آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وفي كثير من المواضع ذكر القرآن لهذا الكتاب الكريم ، وبين القرآن والميزان مناسبة ، فإن القرآن فيه من العلم مالا يوجد في غيره من الكتب ، والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره من الآلات ، فإن قيل : ما الفائدة في تقديم السماء على الفعل حيث قال : { والسماء رفعها } وتقديم الفعل على الميزان حيث قال : { ووضع الميزان } ؟ نقول : قد ذكرنا مرارا أن في كل كلمة من كلمات الله فوائد لا يحيط بها علم البشر إلا ما ظهر والظاهر هاهنا أنه تعالى لما عد النعم الثمانية كما بينا وكان بعضها أشد اختصاصا بالإنسان من بعض فما كان شديد الاختصاص بالإنسان قدم فيه الفعل ، كما بينا أن الإنسان يقول : أعطيتك الألوف وحصلت لك العشرات ، فلا يصرح في القليل بإسناد الفعل إلى نفسه ، وكذلك يقول : في النعم المختصة ، أعطيتك كذا ، وفي التشريك وصل إليك مما اقتسمتم بينكم كذا ، فيصرح بالإعطاء عند الاختصاص ، ولا يسند الفعل إلى نفسه عند التشريك ، فكذلك هاهنا ذكر أمورا أربعة بتقديم الفعل ، قال تعالى : { علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان } { ووضع الميزان } وأمورا أربعة بتقديم الاسم ، قال تعالى : { والشمس والقمر ، والنجم والشجر ، والسماء رفعها ، والأرض وضعها } لما أن تعليم القرآن نفعه إلى الإنسان أعود ، وخلق الإنسان مختص به ، وتعليمه البيان كذلك ووضع الميزان ، كذلك لأنهم هم المنتفعون به الملائكة ، ولا غير الإنسان من الحيوانات ، وأما الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء والأرض فينتفع به كل حيوان على وجه الأرض وتحت السماء .