وحين يبلغ إلى هذا الحد من بيان وهن عقيدة الشرك وتهافتها عند الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويشركون بالله ، وينسبون له البنات ويسمون الملائكة تسمية الأنثى ! يتجه بالخطاب إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليهمل شأنهم ويعرض عنهم ، ويدع أمرهم لله الذي يعلم المسيء والمحسن ، ويجزي المهدي والضال ، ويملك أمر السماوات والأرض ، وأمر الدنيا والآخرة ، ويحاسب بالعدل لا يظلم أحدا ، ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصر عليها فاعلوها . وهو الخبير بالنوايا والطوايا ، لأنه خالق البشر المطلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا :
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا . ذلك مبلغهم من العلم . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش - إلا اللمم - إن ربك واسع المغفرة . هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم . فلا تزكوا أنفسكم . هو أعلم بمن اتقى . .
هذا الأمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ، ولم يؤمن بالآخرة ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا . موجه ابتداء إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليهمل شأن أولئك المشركين الذين سبق الحديث في السورة عن أساطيرهم وأوهامهم وعدم إيمانهم بالآخرة .
وهو موجه بعد ذلك إلى كل مسلم يواجهه من يتولى عن ذكر الله ويعرض عن الإيمان به ؛ ويجعل وجهته الحياة الدنيا وحدها ، لا ينظر إلى شيء وراءها ، ولا يؤمن بالآخرة ولا يحسب حسابها . ويرى أن حياة الإنسان على هذه الأرض هي غاية وجوده ، لا غاية بعدها ؛ ويقيم منهجه في الحياة على هذا الاعتبار ، فيفصل ضمير الإنسان عن الشعور بإله يدبر أمره ، ويحاسبه على عمله ، بعد رحلة الأرض المحدودة ، وأقرب من تتمثل فيه هذه الصفة في زماننا هذا هم أصحاب المذاهب المادية .
والمؤمن بالله وبالآخرة لا يستطيع أن يشغل باله - فضلا على أن يعامل أو يعايش - من يعرض عن ذكر الله ، وينفي الآخرة من حسابه . لأن لكل منهما منهجا في الحياة لا يلتقيان في خطوة واحدة من خطواته ، ولا في نقطة واحدة من نقاطه . وجميع مقاييس الحياة ، وجميع قيمها ، وجميع أهدافها ، تحتلف في تصور كل منهما . فلا يمكن إذن أن يتعاونا في الحياة أي تعاون ، ولا أن يشتركا في أي نشاط على هذه الأرض . مع هذا الاختلاف الرئيسي في تصور قيم الحياة وأهدافها ومناهج النشاط فيها ، وغاية هذا النشاط . وما دام التعاون والمشاركة متعذرين فما داعي الاهتمام والاحتفال ? إن المؤمن يعبث حين يحفل شأن هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله ولا يريدون إلا الحياة الدنيا . وينفق طاقته التي وهبه الله إياها في غير موضعها .
قوله جلّ ذكره : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } .
أي أَعْرِض عمَّن أَعرض عن القرآنِ والإيمان به وتدَبُّرِ معانيه ، ولم يُرِدْ إِلا الحياةَ الدنيا . ذلك مبلغهم من العلم ؛ وإنما رضوا بالدنيا لأنهم لم يعلموا حديث الآخرة ، وإِنَّ ربَّك عليمٌ بالضالِّ ، عليمٌ بالمهتدِي . . . وهو يجازي كلاًّ بما يستحق .
{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة ، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم . المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة . المشتمل على علوم الأولين والآخرين . المذكر للآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها ، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به ، وقيل : المراد بالذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به ، وقيل : المراد به الإيمان ، وقيل : هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز وجل { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } راضياً بها قاصراً نظره عليها جاهداً فيما يصلحها كالنضر بن الحرث . والوليد بن المغيرة ، والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل : لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه .
{ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } : أي القرآن وعبادتنا .
{ ولم يرد إلا الحياة الدنيا } : ولم يرد من قوله ولا عمله إلا ما يحقق رغائبه من الدنيا .
فقال تعالى { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } أي القرآن والإِيمان والتوحيد والطاعة ، ولم يرد بقوله وعمله واعتقاده إلا الحياة الدنيا إذ هو لا يؤمن بالآخرة فلذا هو قد كيَّف حياته بحسب الدنيا فكل تفكيره في الدنيا ، وكل عمله لها فيصبح بذلك أشبه بالآلة منه بالحيوان . وتصبح الحياة معه عقيمة الفائدة فلذا يجب الإِعراض عنه وتركه إلى أن يأذن الله فيه بشيء .
- التحذير من الماديين فإنهم شر وخطر وواجب الإِعراض عنهم لأنهم شر الخليقة .